يصل الكتاب إلى القارئ وينهمك في قراءته، دون أن يعرف تفاصيل كثيرة عن أحوال طباعته ونشره، وماذا جرى في الكواليس، وفي صناديق البريد الإلكتروني، من مشاكل واختلافات في الرأي والمبتغى.
ثمة تفاصيل كثيرة يحاول هذا التقرير -الذي يشارك فيه ثلاثة روائيين من أمزجة كتابيّة مختلفة- التعرف على بعضها، من زاوية المؤلفين، وسيتناول تقرير لاحق وجهة نظر الناشرين.
تجربة طويلة ومريرة
قبل أيام قليلة كتب الشاعر والروائي السوداني طارق الطيب -المقيم في فيينا- على صفحته الشخصية في فيسبوك “القِسمة هكذا/ المال للناشر/ والمَحبة للكاتب/ الناشر يعيش من النشر/ والكاتب يعيش من عمل آخر”.
ويبدو أن هذه الجملة -كما قال للجزيرة نت- أثارت شجونا، وحرّكت “غَمًّا من الراكد، ووافقني أغلب الكتاب عليها”.
إذ يجد صاحب رواية “وأطوفُ عاريا” أن كثيرا من الناشرين في حقيقة الأمر لا يهمهم كيف يعيش الكاتب؛ مع أن الناشر يعد “رب عمل” بشكل ما للكتّاب، ولو في أضيق الحدود.
الطيب يجد أن بعض الناشرين لا يدفعون حقوق الكُتّاب، لا بشكل دوري ولا غير دوري، ولا يتعاقدون رسميا وكتابيا بعقد ملزم، بل إن هناك “دور نشر تقبض من الكاتب مقدما قبل نشر الكتاب”.
ووفق ذلك فمن المتوقع أن يكون الكُتّاب غير متفرغين ويعملون في مجالات قريبة من المهام الثقافية أو التعليمية، وقليل منهم في مهن مريحة تغطي تكاليف حياتهم، “أما العدد الأكبر فيعاني من مرارة وكلفة الحياة ونفقات الصرف على الكتابة إن أصابهم بها الزمن”.
من خلال تجربته الشخصية التي “سيأتي الوقت المناسب لتفصيلها في كتاب”، يقول الطيب إنه تعامل حتى الآن مع 12 دار نشر عربية، ومع عشر دور نشر أجنبية، ثلاث منها في أميركا الجنوبية وواحدة في أميركا، وفي طريقه للتعاقد مع داري نشر عربيتين خلال هذا الشهر؛ “هذه المرة بعقود تبدو جيدة، وفي الشهر الماضي تعاقدت مع دار نشر أجنبية، دفعَتْ وحوّلَت فورا باليورو مبلغا مبدئيا إلى حسابي في اليوم نفسه قبل الترجمة”.
ويضيف طارق الطيب، الذي حصل على وسام الجمهورية النمساوية تقديرا لأعماله في مجال الأدب والتواصل الأدبي داخليا وعالميا عام 2008؛ “لم أحصل على مليم من أي دار نشر عربية مقابل ما نُشر لي فيها منذ 28 سنة. بالعكس، أشتري نسخا من كتبي كلما احتجت لإهدائها لأصدقاء لا يتمكنون من الحصول عليها في مكانهم”.
ويجد صاحب رواية “الرحلة 797 المتجهة إلى فيينا” أن بعض دور النشر العربية لا توقّع مع الكاتب عقدا، وإن فعلَت فليس مع كل الكُتّاب. وبعض دور النشر تصدر طبعات جديدة من الكتاب الذي بيعت طبعته الأولى، دون أن تُعلِم الكاتب، ودون أن تنبهه لكتابة عقد جديد إن كان قد وقّع عقدا سابقا، “وبهذا تضيع فرصة توزيع أفضل، ورواج الكتاب المكتوب على غلافه طبعة ثانية أو ثالثة”.
احترام حقوق المؤلف
أما أغلب دور النشر الأجنبية التي تعامل معها “فقد أرسلت لي عقدا تفصيليا، فيه كل حقوق الطرفين التي تترتب على طباعة كتابي، مع تفاصيل لحقوق الاقتباس من الميديا التي لا أنتبه لها، وحقوق التحويل لأفلام، وطريقة ترويج الكتاب، ولا تنسى حقوق المترجم بعقد خاص له فيه التفاصيل ذاتها، لو كان الكتاب مترجما”.
ويستطرد الطيب أن دور النشر الأجنبية التي كانت تابعة لجامعات أو هيئات محدودة التزمت بطبعة غير ربحية، تقدِّم منها للكاتب نسخا كافية كهدية وتعويض.
وفي نهاية كل عام ميلادي، تقوم دار النشر الأجنبية بإرسال تقرير تفصيلي عن مخزون الكتب المتبقي من الطبعة، وتفاصيل التي بيعت أو أهديت أو تلفت بسبب النقل، ثم ترسل له ما يستحقه على حسابه البنكي دون تلكؤ.
مشاريع ربحيّة
من جهته، يؤكد الروائي العراقي شاكر نوري أن الناشر العربي الذي يهتم بمصالحه فحسب هو الذي ينظر إلى الكتّاب والمؤلفين كمشاريع ربح فقط.
وبسؤاله عن سبب الشكوى من بعض دور النشر، إذا كانت تسير ضمن قواعد سليمة، قائمة على احترام الناشر لجهود الكاتب؛ قال للجزيرة نت إن “معظم دور النشر عبارة عن دكاكين للنشر لا أكثر، ومجموعة من باعة الكتب قفزت إلى مرتبة الناشرين”.
ولا يؤمن نوري -الفائز بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات (2013) وجائزة كتارا (2017) وجائزة الصحافة العربية (2018)- بدار نشر “يديرها شخص واحد، هو المقرر الأوحد، يقرأ المخطوطة، طبعًا لا يقرأها، ويدققها وينشرها ويوزعها، أي لا توجد مؤسسة نشر”.
ويستطرد شاكر بأن دور نشر كهذه تقترف جريمة في حق الأدب؛ فهي تنشر “مقابل المال روايات وأعمالا غثة، غير صالحة للنشر، لكن المال وحده جعلها تخرج إلى النور”.
كما يرى أن دور النشر هذه تتفنن في الاحتيال على الكاتب، خاصة من حيث عدد الطبعات. ويتساءل عن “الغبن” الذي يتلقاه المؤلف في العالم العربي، وعدم الحصول على حقوق تصونها عقود موقعة، وحتى لو كانت هناك عقود، فهي عبارة عن “حبر على ورق ليس إلا”.
ويؤكد بدوره أن الناشر يعيش من النشر “بينما الكاتب يعيش من مهنة أخرى”. فهذه الدور لا تدفع مستحقات الكاتب مهما كانت مبيعات كتبه. ويرى أن “غياب مَن يحاسب دور النشر هو السبب الأول والأخير”؛ مما سبب “ضياع حق المؤلف، والتجاوز على الملكية الفردية، واتخاذ كل تدابير الحيلة والمكر واستغلال الكاتب إلى أقصى حد ممكن”.
ووفق كلام شاكر نوري، يبقى الكتاب من دون توزيع ولا إعلان ولا تسويق؛ “فالعملية تجارية بحتة ولا علاقة لها بالثقافة”، حسب تعبيره. كما يرى أن بعض هذه الدور تفتقر إلى لجان التصحيح والاختيار والمتابعة والتوزيع وغيرها من سلسلة العمليات التي ترافق علمية النشر.
التخلّي عن الكاتب
كذلك يرى نوري أن الناشر العربي لديه الاستعداد للتخلي عن الكاتب في أية لحظة، لذا “نرى أن مؤلفات الكاتب العربي متشظيّة في عدة دور نشر شرقًا وغربًا”، فلا وجود لهذه العلاقة الدائمة بينه وبين ناشره.
في حين أن دور النشر الغربيّة تواصل نشر أعمال الكاتب، وتستمر معه في تطوره؛ “فنحن نعلم أننا سنجد مؤلفات أمين معلوف عند دار “غراسيه”، ومؤلفات الطاهر بن جلون عند دار “سوي”، ومؤلفات فيليب سولرز عند “غاليمار”، وهكذا. بينما قلة من دور النشر العربية تحترم هذا التقليد”.
وبسؤاله عن سبب هذا التشظي وغموض العلاقة بين الطرفين، قال صاحب رواية “شامان” للجزيرة نت؛ إنه في ظل غياب المؤسسات الثقافية، وقوانين حماية حقوق الناشر والمؤلف، تصبح العلاقة بين الناشر والكاتب غامضة وغير واضحة.
ويكاد يجزم أن “غالبية دور النشر العربية هي عبارة عن دكاكين تجارية، ليس لديها أي مشروع ثقافي أو معرفي على الإطلاق” على حد تعبيره، مطالبا بإغلاق الأبواب في وجه دور النشر التي “تعتنق القرصنة سبيلا لعيشها”.
ويختم نوري بأن هناك دورا “عريقة وجادة ما زالت تؤمن برسالتها الثقافية، وما زالت تقاوم وتناضل من أجل الكتاب”.
الشخص المؤسسة
أما الروائي السوري -المقيم في ألمانيا- جان دوست، فيرى أن هناك دور نشر يشرف عليها أناس مثقفون، شعراء وكتاب، وهؤلاء يحاولون قدر الإمكان تقديم الجيد للقارئ، “لكنهم يقعون في مطب الفردانية، ولا يلجؤون إلى العمل المؤسساتي لأسباب عدة، منها تقليل النفقات”.
وقال صاحب رواية “عشيق المترجم” للجزيرة نت إن الناشر يجمع كل “السلطات” في يده؛ فهو الذي يتكفل بالرد على المؤلف، والتنسيق معه في شؤون الغلاف والإخراج الداخلي والتصحيح، مما يرهقه لأنه يتعامل -في الوقت نفسه- مع مؤلفين عديدين. ويجب أن ينجز كل تلك الأعمال.
ويجد أنه من الواضح أن فردا واحدا لا يمكنه فعل كل ذلك، وبالتالي “يتأخر النشر، وتتأخر ردود الناشر، ويُصاب المؤلف بالإحباط جراء ما يعتبره تعاملا فوقيا من الناشر”.
ولكي تصبح دار النشر مؤسسة مريحة لجميع الأطراف يجب أن تتوزع فيها المهام بين المصحح والمدقق اللغوي، ومصمم الغلاف، ومنسق التسويق والإشهار وإدارة العلاقة مع المؤلف، في حين التحول إلى مؤسسة يتطلب مالا.
من جهة أخرى، يقول صاحب رواية “نواقيس روما” إنه عمل مع دور نشر مؤسساتية، وكان التعامل ممتازا. “تقول لك دار النشر الكتاب سيصدر في الشهر الفلاني، ويصدر فعلا في موعده. لأن لها خطة عمل وتنسيقا بين موظفي المؤسسة، وتوزيعا للأدوار يخفف عبء العمل عن الجميع”.
أمنيات وحلول
مشكلة أخرى يراها جان دوست جديرة بحل جذري، وهي طباعة ألفي نسخة، مثلا، من كتاب ليغطي القراء من الخليج إلى المغرب، وفي الوقت الذي يجد المؤلف عدم عقلانيّة ذلك، يبرّره الناشر بأنه “يريد احتكار النشر في كل البلاد العربية، لكنه ليس بإمكانه إيصال نسخ كافية. يذهب إلى المعارض ويأخذ معه من كل كتاب خمسين نسخة مثلاً. هل هذا يكفي؟”
ولذلك يعتقد أن هذا هو سبب قرصنة الكتب وتحويلها إلى نسخ إلكترونيّة؛ فالقراء يسمعون عن صدور كتاب ما لكنهم لا يجدونه في مكتبات بلدانهم، فيضطرون إلى نسخه إلكترونيا.
لو فكر الناشرون -كما يقول الأديب الحاصل على جائزة دمشق في الفكر والإبداع لعام 2013- في الأمر جيدا لوجدوا أن هناك حلولا تعود بالخير على المؤلف والناشر والقراء أيضا. من خلال طباعة نسخ كثيرة وتوزيعها في البلاد العربية. “على الأقل ثلاثمئة نسخة لكل بلد، وسيكون ذلك أمرا جيدا، وعندها سيحصل المؤلف على مستحقات أفضل، ويربح الناشر مالا أوفر، وسيتمكن القراء من الحصول على النسخة الأصلية بسعر أفضل”.
ويرى جان أن بإمكان دار النشر أن تتحول إلى شركة لها مراكز في كل العواصم، تقوم بنشر إنتاجها بطريقة أفضل من الطريقة التي يعتمدها الناشرون حاليا؛ وهي الاكتفاء بفترة المعارض.
ويختم جان دوست حديثه للجزيرة نت بأنه جرّب ناشرين كثيرين، وتنقل بين دور نشر عديدة. “وهذا أمر سيئ يسبب الإرباك لدى القراء. أمنيتي أن أستقر على ناشر يحقق طموحي ككاتب، وينجز العمل في الموعد المحدد، ويهتم بالكتاب ونشره وتسويقه، مما يريحني من هم التفكير في هذا الموضوع، ويجعلني أتفرغ للكتاب الذي أشتغل عليه من دون أن أخشى صدوره أو بقاءه ينتظر إلى أجل غير مسمى”.