إبراهيم البهرزي*
كشف الحراك الشبابي الأخير حقيقة مفادها ان أغلبية مثقفي العراق كانوا مع السلطة بشكل او باخر ،ولأسباب مختلفة قد تكون نفعية محضة او حزبية او طائفية
سأحاول ان اسوق مقدمة لمحاولة تعليل ذلك وهي مقدمة قد لاترضى الكثيرين
ولكن هل عاد مهما من يرضى ولا يرضى تحت وطأة غضب ماعاد يوفر للمجاملة هامشا جديرا بالتوفير ؟
وهي مقدمة او رأس سطر لاغيرَ:
عند شعب بسيط مثل شعبنا تتكون اغلبيته من فئات أمية او محدودة التعليم وتشكل المجتمعات الريفية النسبة الأعظم من نسيجه السكاني فان مفردة ( الثقافة ) وما ينسج حولها من أساطير شكلت وبفضل الايديولوجيات السياسية ( في السلطة والمعارضة معا ) عامل إبهار مبالغ فيه وصل حد الخديعة الجماعية احيانا من خلال تطويب نماذج لاقيمة حقيقية لها وتزوير الوجدان الشعبي وتضليله بأهميتها في الواقع الذي لا تجرؤ جهة أكاديمية او مؤسساتية مستقلة تعنى بالثقافة على اعادة فحص القيمة الحقيقية الإبداعية للمثقف من جهة الأثر الثقافي او من جهة الموقف الإنساني بطريقة شفافة لاتخضع للمحاباة الحزبية او الطائفية او المناطقية وهي ثلاثة معايير انطوت تحتها الكثير من عمليات التزوير المبطنة وتضليل الرأي العام .
عدم الجرأة والمغامرة وابقاء التاريخ الثقافي الزائف على ماهو عليه يعود لسببين :
الطبيعة الوظيفية النفعية للثقافة حيث أصبحت هذه (المادة المعلن عنها ) هي البضاعة اللازمة للتحصيل الأكاديمي او الحصول على الوظيفة الثقافية او المنصب اكثر بكثير مما تعنيه قيمة الثقافة بحد ذاتها ، ويمكن التأكد من ذلك من خلال معاينة وفحص الكثير من الاطاريح الأكاديمية المفبركة حول اسماء لاتملك أية اضافة او إنجازات أصيلة اضافة لكم الكتب الهائلة التي هي في الغالب حصيلة مجاملات او أثمان مدفوعة او توصيات وتكليفات حزبية او غيرها
السبب الاخر هو ما يمكن تسميته ب(تساند التفاهة ) ففي لحظة من لحظات انحطاط الوعي العام تسلم الثقافة قيادها لرهط من محدودي الموهبة الذين يساندون بعضا في ترسيخ نماذجهم المتواضعة ،وبسبب التكرار الناشئ عن الفرص المتاحة دون ضوابط يتراكم التافه ويفرض نفسه كبضاعة موفورة تصبح رهن الرواج في مجتمعات رسخت فيها النظم الدكتاتورية فكرة ان الشائع هو الأفضل وزرعت فيها رهبة الجرأة من طرح الأسئلة المزعزعة الكبيرة القائمة على التشكيك بالموروث الثقافي المهيمن .
واقع الحال ان الثقافة العراقية خضعت ومنذ عقود ولأسباب ايديولوجية محضة لسياسة الاعتباط وتراخت كل المعايير المطلوبة لفرز ماهو دخيل في الثقافة عما هو اصيل فيها ،بل انها أصبحت مصدر عيش ووظيفة للكثير من الفاشلين في كل خبرة وتحصيل وأصبحت كتابة أعمدة انشائية عامة في صحف ومجلات غير محكمة ، أصبحت مثل هذه الأشياء وربما ممارسات اقل منها سبيلا مفروشا بالورود للحصول على وظيفة يعجز خيرة المهنيين والموهوبين في قطاعات اخرى على الحصول على ما يوازيها للحد الذي صار فيه الميدان الثقافي هو فردوس العاطلين عن النفع العام .
اذا استثنينا اسماء قليلة كانت في فترة من فترات النضال الشعبي منسجمة مع شعبها بالممارسة الحياتية والنتاج الإبداعي ، فان تاريخ الثقافة العراقية هو تاريخ مخز ٍ بكل امتياز ،هو تاريخ صراع ايديولوجيات منافقة يتراوح خطابها بين التأييد المطلق او العداء المطلق للسلطة والمعارضة دون أية مغامرات نقدية تقوم على المراجعة والاعتراف والتحليل العلمي ، هو تاريخ تشكل خطابه على نزعة عشائرية تقوم على النُصرة لاغيرَ ،نصرة (الأخ ) ظالما ومظلوما ،ومن المؤسف ان تكون نصرة الأخ الظالم هي الأكثر تجليا .
الكثير من رموز هذه الثقافة هم صنيعة ايديولوجيات تسلطت او سعت الى التسلط وقد صنعت هالاتها الثقافية في ازمنة تحشد المجتمع فيها قطيعيا خلف هذه الايديولوجيات ، ويفتقد النموذج القطيعي لأية جسارة نقدية الامر الذي يجعله مروجا فطريا للرمزيات البائسة التي تصنعها السلطة (والمعارضة ايضا التي هي وجه السلطة الخفي ) ومع الزمن تترسخ التفاهة فيصبح من الخطيئة ،في العرف الشعبي على الأقل ، التفكير بإعادة فحص وتقويم هذه النماذج.
اعتقد ان الحراك الشبابي الأخير هو اعظم إنجاز في تاريخ الثورات الوطنية العراقية من جهة تملصه ولأول مرة في تاريخ العراق الحديث من قبضة الأيديولوجيا ، وربما يكون هذا مقدمة ايضا لإعادة النظر من قبل هذا الجيل الغاضب بتلك الرمزيات البائسة التي فرضتها الايديولوجيات في الفضاء الثقافي وربما سيخلق ،ولأول مرة في تاريخ الثقافة العراقية المستسلمة ، حراكا نقديا يعاود قراءة جسد الثقافة العراقية دون غضاضة عن عوراتها المغطاة بعيون الأيديولوجيا.
وربما سيحرق هذا الجيل في لحظة غضب أطنانا من متون السرديات الزائفة التي خدعوا بها في مراحل تاريخية كان الزيف لحمتها وسداها ،وهذا لوحده فعل جبار يستوجب قطيعة معرفية وانقلابا على كل القناعات المريحة التي شكلت الوجدان الثقافي لهذا الشعب.
*شاعر وكاتب عراقي والمقال من صفحته على الفيسبوك
LEAVE A COMMENT