د. إياد العنبر
لماذا لا يفعل العراقيون مثل المصريين بخروجهم إلى ميدان التحرير والمطالبة بإسقاط النظام؟ ولماذا لم تسقط التظاهرات في العراق نظام الحكم؟ أو لماذا لا تعمل على إصلاحه كما فعلت تظاهرات السودانيين وقبلهم حراك التونسيين؟ تطرح هذه التساؤلات كثيرا في نقاشات العراقيين وسجالاتهم بشأن جدوى التظاهرات وعما حققته؟ وهي تقارن بين مثيلاتها في بعض بلدان الربيع العربي، إذا ذهبنا إلى القول بعجز العراقيين عن تغيير النظام فسيكون رأيا مجحفا وخاطئا، كونه لا يأخذ بالحسبان الفرق في طبيعة الأنظمة السياسية في هذه البُلدان.
فشرعية نظام الحكم في العراق مستمدة من الانتخابات، وبالتالي تختلف الاحتجاجات والتظاهرات في العراق عن طبيعة مثيلاتها العربية، فالأنموذج العراقي هو احتجاج على سوء أداء النظام السياسي، وليس دعوة لإسقاطه. وإن كانت المدخلات الشرعية لنظام الحكم في العراق لم تؤد إلى مخرجات تتلاءم مع طبيعة عمل النظام الديمقراطي على المستوى العمل المؤسساتي وتحقيق التنمية وصولا إلى العدالة الاجتماعية.
لكن تبقى المشكلة واحدة في الأنظمة العربية، سواء أكانت دكتاتورية أو تزعم تبني الديمقراطية، فكلاهما ينظر للجمهور بطريقة مختلفة، لكنها متوافقة بالنتيجة! ففي النظام الدكتاتوري ليس هناك أهمية للجماهير. أما في الأنظمة “الديمقراطية” فإن الشعب في نظر قيادتنا الحكيمة في أيام الانتخابات يمتلك الإرادة، وهو من يمنحهم الشرعية! لكنه إذا انتقد الحكومة فهو لا يفقه، ولا يعلم شيئا، فهو شعب متطلب ومتذمر. وبتعبير آخر يعتبر حكامنا أنفسهم مفكرين وقادة محنكين، والشعب لا يمنحهم حقهم من التبجيل والاعتراف بحنكتهم السياسية لإدارة الدولة. وهم بذلك لا يختلفون عن نظرة الدكتاتور للشعب.
نشطت في العراق حركات الاحتجاج منذ 2011، وعادت مرة أخرى في 2015 حتى نهاية 2018 حاملة شعارات تطالب بتوفير الخدمات وإصلاح النظام ومحاربة الفساد. وفي كل مرة كانت الحكومة تكسب الجولة وليس التظاهرات ومطالبها. ففي 2011 نجحت حكومة نوري المالكي في استخدام القوّة والبطش ضد المتظاهرين، فضلا عن الترويج بقيادة البعثيين للتظاهرات. وفي 2015 تلاعبت حكومة حيدر العبادي بحرف مسار التظاهرات من المطالبة بتوفير الخدمات وتحسينها إلى رفع شعار الإصلاح والتعاطي معها كتهديد أمني لمؤسسات الدولة، وبين تظاهرات هنا وهناك، كانت تظاهرات تموز من العام الماضي في البصرة، الضربة التي قضت على آمال وتحركات السيد حيدر العبادي بالحصول على الولاية الثانية، ما جعل الفرصة مواتية للقوى السياسية المتصدرة لنتائج انتخابات أيار 2018 (سائرون- التحالف الذي يضم التيار الصدري والمدنيين، والفتح) بالتفكير لإخراج رئاسة الوزراء من هيمنة حزب الدعوة، والذهاب إلى تشكيل حكومة جديدة من “المستقلين” و”التكنوقراط”.
وفي دولة هشة وفي نظام سياسي عاجز عن الاستجابة لمطالب مواطنيه في توفير الخدمات الأساسية، ومع بلوغ أزمات العمل السياسي حدا صارت تشابه المرض المزمن العصي على العلاج، قد يبدو التساؤل عن أسباب خفوت حركات الاحتجاج أمرا لافتا ومنطقيا. لا سيما أن التردي في الواقع الخدمي لا يزال على حاله! وهنا يمكن تقديم مقاربتين كمحاولة لتفسير الموضوع، الأولى ترتبط بمواقف التيار الصدري، فهو الآن يملك أكثر عددا من النواب داخل البرلمان، وقد ساهم بفاعلية في تشكيل حكومة عادل عبد المهدي. وبحسب ما يردد السيد مقتدى الصدر فإنه سينتظر مرور عام من عمر الحكومة حتى يتم تقيمها. ولذلك لا نجد توجها نحو التظاهرات. أما المقاربة الثانية، هي أن المجتمع المدني والنخب لا يزال يعاني من حالة الضعف في تحريك الشارع نحو الاحتجاج والتظاهر، على الرغم من قدرته على تحريك الرأي العام وتحشيده في قضايا تتعلق بالحقوق والحريات.
وبنظرة إجمالية للسنوات الأربع الماضية نجد أن التظاهرات كانت تثير القلق لدى الطبقة السياسية الحاكمة. لكن قدرة هذه الطبقة على المراوغة كانت تحسم النتيجة النهائية لصالحها وتجعل التظاهرات من دون جدوى. ومن ثم، باتت الاحتجاجات تفقد معناها والغاية الرئيسة منها، فالأحزاب والطبقة السياسية صارت تجيد التحولات ولعبة تبديل المواقف، ويتم تسويقها من خلال شعارات وخطابات سياسية تنتقد الحكومة، لكنها في الواقع هي من شكلتها وتتشارك معها مغانم الحكم. فحتى الآن الكل ينتقد الفساد ويدعو إلى الإصلاح، والجميع يستهجن تردي الوضع العام، ولكنه يرفض الاعتراف بأنه شريك بسوء الإدارة وفشل النظام السياسي.
والمفارقة الأكثر تشاؤما، هي وقوفنا على مشارف انسداد سياسي خطير، حتى أن الخروج بتظاهرات دفع الشارع للتساؤل من يتظاهر ضد من؟ ومن يتحمل مسؤولية الخراب الذي يخيم على حياتنا؟ فالتحشيد المليوني الذي يتباهى به أنصار التيار الصدري، يواجه تحدي المصداقية.
ومن زاوية أخرى، ما أسست له حركات الاحتجاج لا يمكن تجاوزه بسهولة، فكسر حاجز الصمت والتحول في الثقافة السياسية من الانعزالية والانفعالية إلى الثقافة التفاعلية يمكن المراهنة عليه مستقبلا في تصحيح الكثير من المسارات التي تخفق الانتخابات في تحقيقها. فالتظاهرات الآن في العراق لم تعد تجمعات في الساحات العامة، بل أخذت تعبر عن مطالب قطاعات شبابية تحمل شهادات جامعية ولا تجد لها فرصا للعمل. فالشباب المتعلم يعاني من الإحباط بسبب عدم وجود سياسات عامة قادرة على احتواء مطالبه وحقوقه التي يعتبرها مشروعة. وإن تأخر الحكومة في استيعاب هذا الحراك الاجتماعي سيكون تهديدا للاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي.
*أكاديمي وكاتب عراقي والمقال من موقع “الحرة”
LEAVE A COMMENT