تعتمد السياسة الايرانية على مبادئ ثابتة في العلاقات الدولية والإقليمية بما يخدم مصالحها ومنافعها ويحقق لها وجودها وليست مثاليتها التي تطلقها عبر التصريحات الرنانة واللقاءات الاعلامية والتصعيد اللفظي العاطفي الذي تستدرج به الشعوب الإسلامية والعربية، فهي تنطلق من مبدأ قائم على الحفاظ على نظامها السياسي وعدم التفريط به وإيجاد الذرائع والأدوات التي تستخدمها في استمرارية البقاء رغم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها البلاد وهي بذلك تعمل على سياسة المهادنة وتصريف الأمور وفق رؤية استراتيجية بدأت تظهر ملامحها الحقيقية بعد الأحداث التي شهدتها المنطقة العربية وخاصة العملية العسكرية التي ابتدأتها حركة حماس فجر يوم السابع من تشرين الأول 2023 باقتحام غلاف غزة والاشتباك بعدد من القوات العسكرية والأمنية الإسرائيلية في عدد من المواقع والاماكن التابعة لها.
و بقراءة واضحة لمجريات المعركة وكشف الأبعاد الحقيقية التي يسعها إليها النظام الإيراني لتوظيفها لصالح أهدافه ورؤيته في كيفية التعامل مع المتغيرات القادمة في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي فإنه بدأ يستخدم لغة التهدئة والدعوة لوقف القتال ومحاولة عدم توسيع دائرة الصراع والمواجهة العسكرية والاكتفاء بكلمات وخطابات التضامن والدعم المعنوي رغم التضحيات الكبيرة التي قدمها الشعب الفلسطيني وخاصة أهالي غزة والتي بلغت الآلآف من الشهداء والجرحى وتهديم الدور واستهداف المجمعات السكنية والمستشفيات ودور العبادة والأبراج الاعلامية والمراكز الطبية في إبادة جماعية وقصف وحشي بربري مستمر وسحق لجميع لمرتكزات البنية التحتية لقطاع غزة، واكتفيت إيران بالمناورات الدبلوماسية والحديث عن عدم معرفتها بتوقيت العملية او الاعداد لها واقرت بدعمها ومساندتها لحق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن أرضه واستعادة حقوقه، وهي بذلك تعلن عن سياسة تتمتل في توظيف استراتيجية عسكرية واقتصادية متعددة الأبعاد والتي بداتها عام 2011 بعد الأحداث التي جرت في سوريا بتوريد المعدات والتدريب الفني وتزويد الفصائل المسلحة التابعة لها والتي تتلقى الدعم من فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني بالأسلحة والمعدات واعدادها لتنفيذ المشروع الإيراني في المنطقة والحفاظ على استمرار التواجد العسكري في سوريا واليمن والعراق ولبنان وتجنب الدخول والتورط باي مواجهة عسكرية إقليمية ومهاجمة إسرائيل لان لديها اذرع وشركاء في محور المقاومة التي تتبع سياستها وتعمل وفق استراتيجيتها وتتصرف نيابة عنها وهي ما تمثل الرؤية الإيرانية السياسية حاليا من الأوضاع القائمة في قطاع غزة.
أحدث هذا الامر موقفاً ميدانياً في عدم التدخل المباشر في الصراع القائم وابقاء قدرتها من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة حبيسة المخازن العسكرية والتي ادعت انها أعدت لتحرير القدس..!
هذه الاقاويل اثبتت عدم مصداقيتها وانها لم ترتقي لمستوى الخطاب الذي كانت تتدعيه إيران ومحور المقاومة التابع لها بأن توجهاتها وأهدافها هي تحرير الأرض الفلسطينية وانهاء دولة إسرائيل وتحقيق مبدأ ( وحدة الساحات) الذي يتضمن اتفاقاً على توحيد صفوف تلك الفصائل المقاومة في حال تعرض اي منها لضربة عسكرية وهذا ما اُسقط في الحرب القائمة والمواجهة الفعلية بين حماس وإسرائيل الا من حالات منفردة قامت بها الفصائل المسلحة في العراق واليمن باستهداف المواقع والقواعد العسكرية الأمريكية الإسرائيلية في العراق وسوريا ومياه البحر الأحمر في حين ربط حزب الله مسانده العسكرية ببدأ الاحتياج البري الحقيقي لغزة والذي بدأت الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية بتغيير منهجية الهدف من توسيع دائرة الحرب واقتصارها على إسقاط حماس وانهاء وجودها، لان واشنطن لا ترغب في إشعال جبهات أخرى بينها وبين إيران لضمان استمرار جولات الوساطة التي تقوم بها جهات عربية للتوقيع على الاتفاق النووي الإيراني إضافة لقيام البيت الأبيض بتوجيه رسالة مباشرة لإيران حذر فيها من أي هجمات عسكرية ضد أهداف أمريكية في الوطن العربي واستغلال الظروف القائمة وأشار إلى حزب الله بتجنب توسيع دائرة الحرب ضد إسرائيل، وهذا ما التزمت به إيران عبر العديد من التصريحات التي صدرت من المرشد الأعلى علي خامنئي ووزارة الخارجية الإيرانية وقيادات الحرس الثوري بعدم معرفتهم بتوقيت عملية طوفان الأقصى ولكنهم باركوا العمل واعتبروه حقاً مشروعاً، مما جعل وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن يؤكد مراراً بأن (أمريكا لا تسعى الى مواجهة مع إيران)، وهذا يدل على أن النظام الإيراني يجيد عملية توظيف الأفكار والقيم والشعارات المرتبطة بالعدالة والمقاومة والإنسانية ودعم المستضعفين من أجل تحقيق المنافع الخاصة به وليس من أجل مصالح الأمة العربية والإسلامية.
اثبتت الأحداث الأخيرة ان حزب الله وهو احد تيارات المقاومة الإسلامية ويمثل القوة الأكبر بعد إيران انه لا يمكن له ان يوسع دائرة مواجهته لإسرائيل وحسب ما يدعيه من مناصرته للقضية الفلسطينية التي أصبحت تأخذ منحنى لفظي واعلامي بعيداً عن أي مشاركة فعلية والتي ترى انها اقتصرت على بعض المواجهات الرمزية من خلال دفع عناصره وبعض مقاتلي الفصائل الفلسطينية عبر الحدود اللبنانية للقيام بعمليات في الجبهة الشمالية نفوذها عدد من مقاتلي كتائب القسام وقوات الفجر الجناح العسكري للجماعة الإسلامية وسرايا القدس وهذا ما جعله يتلقى عتباً شديداً وضغطاً فلسطينياً من قبل قيادات حماس بعدم فعالية دوره ومساندته للفعاليات العسكرية في محور قطاع غزة مع الرفض الرسمي اللبناني لاي مغامرة عسكرية تؤذي الشعب وتزيد من أزماته الاقتصادية والاجتماعية، وهذا ما جعل إيران توجه إسماعيل قاأني بزيارات متكررة في الأيام ( 16،20،31) من شهر تشرين الأول 2023 وتشكيل غرفة لإدارة عمليات تجمع الفصائل التابعة لإيران للتنسيق المباشر وهذا سبق كلمة حسن نصر الله في الثالث من تشرين ثاني 2023 التي تحدث فيها عن موقف حزب الله من تراجع احتمالات الحرب وتطورها وإطلاق معادلة جديدة مبنية على سرد الأحداث والتوقعات والأسباب التي أدت إلى عملية طوفان الأقصى بتصعيد لفظي لا يمثل حقيقة ما كان مطلوب من قبل حركة حماس وباقي الفصائل الفلسطينية، وهكذا هم الايرانيون يوجهون شركائهم في محور المقاومة بالتلاعب في ازدواجية الخطاب وترك إمكانية المناورة قائمة حتى اللحظات الأخيرة بما يحقق لهم غايات ومكاسب على ميدانية، وهذا ما جعل خطاب امين عام حزب الله اللبناني لا يحمل اي تصعيد او اعلان للحرب المباشرة وإنما اكتفى بكشف تفاصيل ما جرى خلال الأسابيع الماضية وقراءة لمجريات المعركة.
ان عملية طوفان الأقصى قد انهت مصداقية الأفكار الإيرانية إذ لم نشاهد اي رد فعل على القصف الوحشي والابادة الجماعية التي يتعرض لها أبناء غزة والضفة الغربية وفقدت إيران مكانتها في انها تمثل رسالة دينية لتطبيق العدالة الاجتماعية ورسالة الله في الأرض، وهذا ما خالف المادة السادسة عشر من الدستور الإيراني التي تنص على ( تنظيم السياسة الخارجية للبلاد على أساس المعايير الإسلامية والالتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين والحماية الكاملة لمستضعفـي العالم)، ولم تتدخل إيران باعتبارها مركز لمقاومة الإسلامية في الشرق الأوسط لدعم أهالي غزة والمستضعفين فيها وراح ضحيتها الأف الأبرياء ولن تدعم حليفتها الاستراتيجية حماس التي تعتبرها نموذج للمقاومة كما جاء على لسان خامنئي (ان الهوية الإيرانية تتبع مركزاً مهماً بين الدول الأخرى مثل فلسطين والعراق ولبنان)، لان إيران لا تربد أن تكون هدفاً عسكريًا لتل أبيب وواشنطن وكذلك تسعى لحماية حزب الله اللبناني والاحتفاظ به كركيزة لها أساسية في المنطقة وتنأى بنفسها عن أي تورط في الحرب القائمة الان بل تسعى الى انهائها وتوظيف اي تطورات في المنطقة وربطها بالدور الإيراني وتحقيق المنفعة الذاتية والمكاسب السياسية، وامعاناً في تثبيت حالة التغيير والمهادنة واستغلال الفرص في منهجية السياسة الإيرانية فقد ابدت موافقتها على مشروع حل الدولتين الذي اقرته الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 27 تشرين الأول 2023 والذي يدعو إلى وقف القتال في غزة والاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولة إسرائيل قابلة للعيش والسيادة التامة، وهذا يعتبر تحول سياسي في موقف النظام الإيراني ويؤسس لمسار جديد في السياسات الدولية والإقليمية في المرحلة القادمة ويخدم جهود التسوية السلمية مع إسرائيل في الوطن العربي بمنع نشرب أي حرب قادمة في منطقة الشرق الأوسط، وهذا الموقف يشكل خلاف جوهري للرؤية الإيرانية لحل القضية الفلسطينية من خلال استعادة المشروع الذي أعلنه المرشد الأعلى خامنئي وأودعته إيران في الأمم المتحدة عام 1999 ويدعو إلى استفتاء عام يشترك فيه السكان الأصليين لفلسطين من يهود من دون المهاجرين والمسيحين والمسلمين بمن فيهم اللاجئون من دول الشتات لتقرير هوية الدولة والنظام.
وجاءت الموافقة الإيرانية على قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة الاخير التي صوت عليها المندوب الإيراني ( سعيد ايراوني) بالقبول ضمنياً بالتعايش السلمي بين الفلسطينين والإسرائيليين وعدم التعرض لأي اخطار نتيجة الحروب واعترافاًرسمياً بدولة إسرائيل وهذا ما يتعارض مع جميع الثوابت العقائدية والفكرية للنظام الإيراني وتأكيده رفض الاعتراف بوجود هذا الكيان ورغم كل مواقفه السابقة الا انهالم تشكل مانعاً في التصويت الإيجابي لمصلحة قرار الجمعية غير الملزم وما جاء فيه من مسار سياسي حول إقامة الدولتين.
جاءت المواقف الإيرانية الأخيرة التصريحات المعلنة لحزب الله اللبناني وكلمة امينه العام لتؤكد حقيقة التوجه العام للسياسة الإيرانية بعدم معرفتها انطلاق معركة طوفان الأقصى وان العمليات الجارية حاليا والتخطيط والتنفيذ المسبق كان فلسطينياً خالصاً وليس لإيران ولا محورها اي يد فيها والتنصل من أي فعل حقيقي لمقاومة الاحتلال وهذا ما يتوافق والمتطلبات الأمريكية بعدم اتساع رقعة الحرب وامتداد ها الإقليمي، وهذا يعني تبرئة النظام الإيراني وحزب الله من أي تبعيات قادمة او حاصلة وانهاء مفهوم وحدة الساحات.
هل لايزال هناك من يعتقد أن إيران مستعدة لمواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي من أجل محور المقاومة او الدفاع عن الحقوق العربية وتحرير القدس؟