خيرالله خيرالله
انطلاقا من غزّة، لحقت بإسرائيل هزيمة لا سابق لها منذ قامت قبل 75 عاما. سيساعدها في الانتقام من الهزيمة الطريقة التي نفذت بها “حماس” هجومها على المستوطنات الإسرائيلية الواقعة في ما يسمّى غلاف غزّة. أفقد هذا الهجوم القضيّة الفلسطينية كلّ تعاطف دولي، خصوصا بسبب وحشيته التي لا توصف. لن يمنع التهديد الإيراني بإشعال المنطقة الانتقام الإسرائيلي الذي لا يقل وحشية عن أفعال “حماس”. إذا وضعنا جانبا الكلام الإيراني الكبير والشعارات الفضفاضة، ستعمل إيران في المستقبل المنظور على هضم الانتصار الذي حقّقته عبر “حماس”، على حساب الشعب الفلسطيني، في انتظار خطوة أخرى تقدم عليها مستقبلا.في ظلّ المأساة التي يعيشها القطاع، وفي وقت لا همّ لدى إسرائيل سوى الانتقام، تدفع غزّة ثمن غياب السياسة. هناك غياب للسياسة على مستويات عدّة بدءا بالسياسة الإسرائيلية العمياء… وصولا إلى الغياب العربي، مرورا في طبيعة الحال بالاختراق الإيراني لـ”حماس” الذي يدلّ على الارتباط العضوي بين الإخوان المسلمين و”الجمهوريّة الإسلاميّة”.
تجاهلت السياسة الإسرائيلية التي اتبعها بنيامين نتنياهو، واليمين الإسرائيلي عموما، واقعا لا مجال لتجاوزه. يتمثل هذا الواقع في استحالة تصفية القضيّة الفلسطينية من منطلق أن الشعب الفلسطيني غير موجود. الشعب الفلسطيني موجود أكثر من أيّ وقت. ثمة مستوى آخر للغياب السياسي، هو المستوى الفلسطيني نفسه. منذ وفاة ياسر عرفات في الحادي عشر من تشرين الثاني – نوفمبر من العام 2004، إلى استيلاء “حماس” على غزّة منتصف العام 2007، لا وجود لأيّ سياسة فلسطينية تجعل المجتمع الدولي، بمن في ذلك إسرائيل، يأخذ في الاعتبار السلطة الوطنيّة في رام الله.
رفضت هذه السلطة التصرّف بطريقة تؤكّد أنها مسؤولة عن الشعب الفلسطيني في الضفّة الغربيّة وغزة وقبلت الأمر الواقع الذي فرضته “حماس” في القطاع بدءا بالقضاء على “فتح” عبر التنكيل بأعضائها بطريقة مشينة.إسرائيل حصدت في نهاية المطاف ما زرعته عندما حاربت “فتح” والسلطة الوطنيّة وغضّت الطرف عن نشاطات “حماس” التي لعبت منذ تسعينات القرن الماضي دورا، عبر عمليات انتحاريّة. استهدفت العمليات الانتحارية لـ”حماس” في معظم الأحيان مدنيين. فعلت ذلك من أجل الحؤول دون تحقيق أيّ تقدّم على صعيد عملية السلام. كانت إسرائيل تقف في كلّ وقت موقف المتفرّج وكان اليمين فيها الذي يمثله “بيبي” نتنياهو يشجع كلّ ما من شأنه نسف اتفاق أوسلو أو أيّ اتفاق آخر مكمّل له. اعتبرت إسرائيل نفسها المستفيد الأوّل من تكريس الانقسام بين الضفّة الغربيّة وغزة ابتداء من منتصف 2007. فعلت كلّ ما تستطيع من أجل فصل الضفّة عن القطاع وإيجاد كيانين فلسطينيين بدل كيان واحد.
استثمرت إسرائيل في كلّ ما من شأنه تعميق الانقسام الفلسطيني فيما استثمرت “الجمهوريّة الإسلاميّة” في “حماس” في ظلّ لامبالاة أميركيّة. كان الاستثمار الإيراني في محلّه كونه صبّ في تمكين اليمين الإسرائيلي من وضع يده على القرار الإسرائيلي، الرافض لأيّ سلام من جهة وحوّل “حماس”، من جهة أخرى، إلى المتحكم بقرار السلم والحرب الفلسطيني، على غرار تحكّم “حزب الله” بقرار السلم والحرب في لبنان.تبقى أخيرا المسؤولية العربيّة عن تجاهل ما يجري في غزّة التي كانت حتّى العام 1967 تحت السيادة المصريّة. كان هناك استخفاف عربي في أحداث غزّة التي امتلكت في مرحلة معيّنة مطارا دوليا خاصا بها. بعد بنائه، افتُتح المطار في 24 تشرين الثاني – نوفمبر في حضور الرئيس بيل كلينتون والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. بدا افتتاح المطار وقتذاك دليلاً على التقدم نحو قيام الدولة الفلسطينية التي لا مفرّ من قيامها يوما.
في غياب “أبوعمّار”، لعب الإهمال دوره في إفلات غزّة من اليد العربية وفي بلوغ الوضع ما بلغه في أيامنا هذه. لم يعد السؤال ما الذي يمكن عمله دفاعا عن غزّة، بل السؤال هل هناك ما يمكن أن يحول دون تهجير أهلها تحقيقا لحلم إسرائيلي قديم ردده غير مسؤول إسرائيلي قبل الانسحاب منها في آب – أغسطس 2005. في مرحلة ما قبل الانسحاب كانت غزّة كابوسا. بقيت كابوسا بعد الانسحاب، خصوصا مع وضع “حماس” يدها على القطاع، وحتّى قبل ذلك، عندما راحت تطلق الصواريخ في اتجاه المستوطنات القريبة من غزّة. وفرت تلك الصواريخ فرصة لأرييل شارون، الذي اتخذت حكومته قرار الانسحاب من القطاع، ليقول “لا وجود لشريك فلسطيني يمكن التفاوض معه”.
لم يتحمّل العرب يوما مسؤولياتهم تجاه غزّة. لم يوجد من يقول لـ”حماس” إنّ تصرفاتها تخدم اليمين الإسرائيلي. الأكيد أن ما أقدمت عليه الحركة، التي هي جزء لا يتجزّأ من تنظيم الإخوان المسلمين، يخدم الذين نادوا دائما في إسرائيل بضرورة تصفية القضيّة الفلسطينية بدل البحث عن حلّ سياسي. مثل هذا الحلّ السياسي بات اليوم ضرورة أكثر من أيّ وقت. صحيح أنّ إسرائيل لا تستطيع سوى أن تنتقم، لكنّ الصحيح أيضا أنّ لا مفرّ من حل سياسي في نهاية المطاف، وهو الحلّ الذي يفترض في العرب الواعين البحث في الأسس التي يفترض أن يقوم عليها.