سليم سوزه*
عندما تنتقد النخب السياسية والدينية عازفة كمان في ملعب كربلاء أو ارتداء البرمودا في الأنبار أو عرض أزياء في مدينة الحبانية “السياحية”،
فهي لا تنطلق من خوفها على دينها وإنما إمعاناً في سياسات التقوى ومن أجل أسلمة المكان إجتماعياً وثقافياً؛ ومثل هذه الأسلمة هي الشرط الممهد للهيمنة الدينية على الدولة. هل عرفنا الآن لمَ يقول ماركس “نقد الدين هو الشرط الممهد لكل نقد”!.
الدين هنا ليس تلك الممارسة الروحية والطقوسية التي يؤديها الفرد تقرباً الى ربه، فهذه قضية شخصية بحتة، وإنما الدين بوصفه منظومة إيديولوجية إقصائية هدفها الأساس الهيمنة على الفضاء الإجتماعي والسياسي والثقافي وتحويل الدولة الى جامع كبير لا حرية فيه إلّا للمصلين. الدين ذلك الكائن الفضولي الذي يتدخل في السياسة والاقتصاد والثقافة والرياضة والسياحة هو المقصود وليس ديناً يصلي فيه المرء خمس مرات في اليوم. حررت أوروبا دينها من هكذا ايديولوجية ووضعته في مكانه الصحيح، فكرة خلاصية روحية. فيما نحن لا نعيد إنتاجه في المدرسة والمستشفى والجامعة والشارع فحسب، بل حتى في أمكنتنا السياحية أيضاً.
ها هو ذا بيان يصدر بأسم مجموعة تطلق على نفسها “علماء وشيوخ وأهالي الفلوجة” يدين عرض أزياء عادي في مدينة الحبانية السياحية، لأنه وحسب البيان يخدش حياء مدينة عفيفة ومحتشمة كمدينة “المقاومة والصمود”، الفلوجة.
لقد أثار هذا البيان حفيظة شريحة واسعة من العراقيين على وسائل التواصل الإجتماعي؛ يتساءلون بمرارة ساخرة لماذا يُراد للأمكنة السياحية أن تتحول هي الأخرى الى جوامع وحسينيات؟ ألا تكفي الألف مأذنة في الفلوجة؟ حتى البيان نفسه يصف مدينة الحبانية بالسياحية، فكيف يقفز أصحاب ذلك البيان على هذه الحقيقة ويجعل من هذا المَعلم السياحي ضريحاً لأفكار رجعية ومتخلفة؟
ثمّة ضجة بين العراقيين اليوم على سياسات الأسلمة هذه، وصار واجباً على الجميع، وأولهم نخب المجتمع الثقافية، التصدي لهكذا سياسات، سياسات هدفها حرف أنظار الناس عن المشاكل الحقيقية التي يمر بها البلد نحو قضايا ليست ذات أولوية عند العراقيين.
لا أرى النقاشات الساخنة بين الإسلاميين والعلمانيين اليوم قضية سخيفة كما يحاول تصويرها مَن هو مرتاح مع هذا التخلف الديني الذي يحيط به، بل هي مهمة لأنها عملية يتشكل من خلالها الوعي ببطء. ومهما بدت تلك النقاشات بسيطة وسطحية أحياناً، هي تساهم (من حيث لا نشعر ربما) في خلق ذلك النقاش الحيوي بين أبناء البلد الواحد. أين علينا رسم ذلك الخط بين الدين والسياسة، بين الفضاء العام والفضاء الخاص، بين الأمكنة السياحية وبين الجوامع والحسينيات؟ ما هي وظيفة رجل الدين ورجل السياسة؟ كيف نوازن بين الهوية الأسلامية الجامعة للبلد وبين الحريات الفردية للأفراد؟ لماذا صار لكل مجموعة من الناس وتحت عناوين مختلفة (علماء وأعيان وشيوخ وأحزاب … الخ) الحق أن تتدخل هكذا علناً بالحريات الشخصية؟ بل وتهدد “الخونة” بالأعراف العشائرية أيضاً كما يقول بيان الفلوجة صراحةً؟ أين وظيفة الدولة في حماية تلك الحريات؟ هذه الاسئلة هي مهمة العراقيين وحدهم ولا أحد غيرهم، بشرط ان تكون جدية ومخلصة وهدفها المصلحة العامة وليس مصلحة طرف على آخر.
كانت حجة بعضهم أن كربلاء مدينة دينية ولها قدسيتها، طيب ماذا عن مدينة يفترض إنها مدينة سياحية أصلاً كالحبانية!
ليس ثمّة شرط ممهد لكل نقد سوى نقد الدين نفسه، ذلك الدين الذي حوله الإنتهازيون والرجعيون والمتشددون الى سلاح في مواجهة الحياة المدنية.
*باحث وكاتب عراقي والمقال عن “المدى” البغدادية
LEAVE A COMMENT