لم تكتف إسرائيل باحتلال أراضي الفلسطينيين، بل طال جشعها أيضًا المطبخ والتقاليد الفلسطينية. وقد تصاعدت موجة عربية من الغضب مؤخرا إزاء قيام الاحتلال الإسرائيلي بإعادة تسمية الأطباق الفلسطينية في الدول الغربية ونسبها إلى المطبخ “الإسرائيلي”.
وفي مقاله الذي نشره موقع “ميدل إيست آي” (Middle east eye) البريطاني، تحدث الأكاديمي والكاتب جوزيف مسعد عن حادثة وقعت معه قبل بضعة أعوام في أحد المطاعم الراقية في قرية غرينتش في مانهاتن، حيث استشاط غضبًا عندما علم أنه أُدرج في قائمة الطعام طبقًا أطلقوا عليه اسم “الكسكس الإسرائيلي”. وقد شعر بالاستفزاز وطلب من المدير تغيير اسم الطبق على الفور، وشرح له أن هذا الطبق في الأصل هو مفتول فلسطيني يُصنع يدويًا.
مع أن المراجع التاريخية تشير إلى أن معرفة الفلسطينيين بكسكسي شمال أفريقيا تعود إلى القرن الـ17 أو قبل ذلك عند التحاق سكان شمال أفريقيا بالجيوش الإسلامية التي قاتلت في الحروب الصليبية واستقرارهم بعد ذلك في القدس، ومن المرجح أن النسخة الحديثة من الطبق قد وصلت إلى فلسطين وسوريا الكبرى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين خلال فرار العائلات الجزائرية والمغربية والتونسية والليبية من الاستعمار الفرنسي والإيطالي. ويبدو أن الفلسطينيين والسوريين عدّلوا وصفة كسكسي شمال أفريقيا ذي الحبيبات الصغيرة، وحوّلوه إلى المفتول الأكبر حجمًا الذي يشبه حبات اللؤلؤ.
مع ذلك، قال الكاتب إن مدير مطعم نيويورك المتعجرف أخبره آنذاك بأنه لا يعرف أصول الطبق، وأنه كان معروفا في نيويورك باسم الكسكس “الإسرائيلي”. وقد شرح له الكاتب أن هذا الطبق يُباع في نيويورك تحت مسمى “كسكس اللؤلؤ” وهو اسم أكثر “حيادية” كان بإمكانه اختياره بدلا من ذلك لتجنب استفزاز رواد المطعم الذي يعرفون أصول الطبق.
وقد ردّ المدير بصرامة بما يعتقد أنه رد فعل ذكي يدحض به حجة الطرف المقابل، وهو أن المطعم أشار أيضًا إلى البطاطس المقلية باسمها المعروف في الولايات المتحدة وهو “البطاطس الفرنسية”، على الرغم من أن الطبق بلجيكي الأصل. ولكن في حالة المفتول، من الواضح أن الإسرائيليين سرقوا الطبق الفلسطيني، وقاموا بتسويقه على أنه ينتمي لمطبخهم، تماما كما فعلوا مع الأراضي الفلسطينية.
الابتكارات المحلية
أوضح الكاتب أن المطبخ الفلسطيني يمثّل جزءًا من المطبخ السوري الأكبر والأكثر ثراء الذي يضم فرعين رئيسيين، وهما المطبخ الدمشقي والمطبخ الحلبي. وتنحدر الغالبية العظمى من أطباق سوريا الحديثة ولبنان والأردن وفلسطين من هذين المطبخين، مع بعض الابتكارات التي تشمل إضافة الخضار والحبوب والأعشاب المزروعة محليًا.
وبما أن الفلافل والحمص والتبّولة والمفتول ومزيج الزعتر والسلطة الفلاحية (المعروفة في الولايات المتحدة بالسلطة “الإسرائيلية”) والكنافة النابلسية وغيرها من الأطعمة، قد تم انتحالها أو سرقتها من قبل المحتلين اليهود في إسرائيل على امتداد عقود، فقد ظهرت مجموعة كاملة من التبريرات في الصحافة الغربية للدفاع عن هذه السرقات. وفي الآونة الأخيرة، أضيفت أيضًا “عجة الشكشوكة” و”اللبنة” إلى قائمة الأطعمة المسروقة التي تنسبها إسرائيل إلى مطبخها.
يزعم البعض عرضًا أن اليهود الإسرائيليين أصبحوا اليوم جزءًا من المنطقة؛ وبالتالي، لديهم الحق في المشاركة في طعامها، مع أن الرواية الإسرائيلية الرسمية تشير إلى عكس ذلك. فقد زعم المؤرخ الإسرائيلي الشهير بيني موريس أن إسرائيل هي “روما” وأن العرب هم “البرابرة” الذين يهددونها، في حين وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك إسرائيل ذات مرة بأنها “فيل في وسط الغابة”.
وبحسب مؤلفة كتب الطبخ اليهودية البريطانية كلوديا رودن فإن العديد من اليهود الأوروبيين الذين هاجروا إلى فلسطين “أرادوا نسيان طعامهم القديم لأنه يذكرهم بالاضطهاد”. ووفقًا لمقال نُشر في صحيفة “نيويورك تايمز” (The New York Times)، “فقد وجدوا (اليهود) في طعام جيرانهم الفلسطينيين صلة بالأرض وبأسلافهم”. وتكمن المفارقة الوحيدة في أن اليهود الإسرائيليين ليسوا جيران الفلسطينيين، بل هم غزاة مستعمرون سرقوا أراضيهم وأطباقهم.
ملكية الأطباق
يسعى الشيف ومؤلف كتب الطبخ الإسرائيلي يوتام أوتولينغي وشريكه الفلسطيني سامي التميمي إلى التخلص من هذه القضية المزعجة المتمثلة في “ملكية” الأطباق والسرقة الاستعمارية.
ويخبراننا في أحد كتبهما أن “طبق الحمص مثلا موضوع حساس، وهو بلا شك طبق أساسي للسكان الفلسطينيين المحليين، ولكنه كان أيضا طبقا دائم الحضور على موائد العشاء ليهود حلب الذين عاشوا في سوريا منذ آلاف السنين، ثم وصلوا القدس في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. فمن الذي يستحق أكثر أن ينسب طبق الحمص إلى نفسه إذا؟ لا أحد منهما. فلا أحد ’يمتلك‘ أي طبق، لأنه من المحتمل جدا أن يكون شخص آخر قد طهاه قبلهم وشخص آخر قبل ذلك”.
وتكمن الإشكالية في أن يهود مدينة حلب لم يكونوا الوحيدين الذين كانوا يتناولون طبق الحمص، بل كانت غالبية السكان من المسلمين والمسيحيين في حلب يتناولونه أيضًا بوصفه طبقا أساسيا. والمسألة ليست أن يهود حلب لم يتناولوا طبق الحمص، بل في تعريف الحمص اليوم باعتباره طبقًا “يهوديًا” أو “إسرائيليًا” بهذه الحجة المشبوهة. ويجادل أوتولينغي والتميمي بأن محاولات ادعاء ملكية بعض الأطباق “لا طائل من ورائها لأنها لا تهم حقًا”.
لقد أصبحت سرقة الأطباق الفلسطينية والسورية من قبل الإسرائيليين ظاهرة شائعة، نظرا لانتشارها في كتب طبخ أطباق الشرق الأوسط والمطاعم “الإسرائيلية” في أوروبا وأمريكا الشمالية، لدرجة تعرض الفلسطينيين للمضايقة إذا قاموا بفتح مطاعم تقدم المأكولات الفلسطينية. واشتكى مطعم فلسطيني بارز في منطقة بروكلين مؤخرًا من مضايقات عبر الإنترنت من قبل أشخاص لم يسبق لهم ارتياد المطعم، ولكن بدافع العداء ضد الفلسطينيين. وقال صاحب المطعم -في مقابلة له- إن “تسمية مطعمه بالمطعم ’الفلسطيني‘ في حد ذاته يفتح عليه باب المضايقات المحتملة”.
الافتراض العنصري
هناك ادعاء يفيد بأن اليهود الذين ينحدرون من دول عربية يشكلون نصف سكان إسرائيل، وبالتالي فإن لهم الحق في المطالبة بأطباق المنطقة تماما مثل الفلسطينيين. ولكن هذا الادعاء مبني على الافتراض العنصري بأن المنطقة العربية بأكملها، انطلاقا من المغرب وصولا إلى العراق إلى اليمن، لديها مطبخ موحّد. في الواقع، إن الغالبية العظمى من اليهود العرب في إسرائيل قادمون من المغرب واليمن والعراق، وهي مناطق -في العالم العربي- لها مطبخ خاص بها.
إن عدد اليهود السوريين واللبنانيين الذين يعيشون في إسرائيل ضئيل، ويشكلون أقلية. ولكن حتى لو كانت أغلبية اليهود الإسرائيليين من سوريا الكبرى، فكيف يكون ممكنًا جعل الطعام السوري أو الفلسطيني “يهوديا”، ناهيك عن جعله “إسرائيليا”، إلا باللجوء إلى السرقة الاستعمارية؟
ينسب أوتولينغي الفضل إلى كلوديا رودن في تمهيد الطريق أمام الطهاة أمثاله. وتصف رودن -في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز- مطبخ اليهود السوريين بأنه “متطور وثري ومتنوع ومعقد ويحتاج إعداد أطباقه وقتًا”، كما لو أن اليهود السوريين لديهم مطبخ مختلف عن المسيحيين السوريين أو المسلمين، وهو ادعاء لا أساس له من الصحة.
وعلى الرغم من أن يهود سوريا الكبرى -شأنهم شأن المسلمين والمسيحيين- لهم كل الحق في المطالبة بملكية الأطباق السورية على أساس وطني أو إقليمي سوري، فإنه لا يحق لهم المطالبة بها على أنها أطباق خاصة باليهود، ومن ثم تسويقها على هذا الأساس. وما زاد الطين بلة أن وسائل الإعلام الأوروبية والأميركية تحتفي بهذه السرقات على أنها مطبخ “إسرائيلي” قومي.
ويختم الكاتب بالقول إن إسرائيل دخلت المنطقة عبر غزو استعماري، ويشعر معظم العرب حاليا بالغضب لكون أطباقهم ومطبخهم يتم انتحالها ضمن جهود إسرائيل الاستعمارية الشاملة لطمس هوية سكان المنطقة.