حين تطأ قدماك مدينة حيدرة الأثرية بولاية القصرين -على الحدود مع الجزائر- تقف على أطلال من تاريخ تونس القديم تأبى الاندثار.
وعندما تتجول في معالم الموقع الأثري المترامي بعيدا عن قرطاج وسط فيافي (صحاري) الغرب التونسي، تتناهى إلى سمعك أصوات حوافر خيول الجيش الروماني -الذي عسكر لسنوات في هذه المنطقة- وصيحات جنوده.
الفيلق الثالث المقدس للجيش الروماني
يقول لطفي النداري -أستاذ التاريخ القديم في الجامعة التونسية- “دخلت مدينة حيدرة في التاريخ بتركيز الفيلق المقدس الثالث في الجيش الروماني، فأصبحت أول معسكر له أثناء حكم الإمبراطور أغسطس (6-14 م). وقد اكتُشفت لاحقا الكثير من النقوش اللاتينية التي تخلد أسماء الجنود وقدماء المحاربين”.
ويوضح النداري -في تصريحات للأناضول- أن “تعداد ذلك الفيلق بلغ نحو 6 آلاف مجند، إصافة إلى ضعف هذا العدد من جنود الوحدات المساعدة المنتدبين من المحليين، لا سيما أثناء ثورة القائد البربري تاكفاريناس بالوسط الغربي التونسي (مجند نوميدي في الجيش الروماني ثار على حكم روما لشمال أفريقيا من سنة 17 م إلى 24 م)”.
ويتابع “انطلقت الحامية العسكرية نحو الغرب إلى تبسة بالجزائر حوالي عام 75 م، وأصبحت “أميدرا” (الاسم الروماني لحيدرة) مأوى لقدماء الجنود، وعندئذ تأسست المدينة واكتسبت نوعا من الشهرة”.
ويشرح النداري أنه “خلال فترة حكم الأباطرة الفلافيين (69-96 م)، عرفت أميدرا ازدهارا اقتصاديا واجتماعيا ونهضة عمرانية مهمة. ومن أهم عوامل هذه النقلة النوعية وجود المدينة في موقع إستراتيجي مميز يربطها بعدة مناطق من مقاطعة أفريقيا الرومانية، مثل الطريق الرابط بين قرطاج وتبسة (فاست بالجزائر)”.
مستوطنة رومانية
ويلفت النداري إلى أنه “من خلال النقوش التي عثر عليها بالموقع الأثري لأميدرا (مساحته 150 هكتارا)، نجد أن المدينة أصبحت مستوطنة رومانية، وهي أعلى رتبة يمكن أن تحصل عليها المدن الرومانية آنذاك، ما يعني أن كل سكانها (كانوا) يملكون حق المواطنة في الإمبراطورية، وأن كل مؤسساتها وقوانينها ومعالمها وديانتها رومانية بالأساس”.
مجد عمراني
يقول النداري إن “أميدرا تطورت بشكل سريع، إذ جرى إنشاء وبناء الكثير من المعالم الرومانية التي تعكس ازدهارا عمرانيا واقتصاديا للمدينة التي اتخذت، رويدا رويدا، شكل المدينة الرومانية الكلاسيكية”.
وعن التطور العمراني الذي شهدته أميدرا آنذاك، يشرح النداري أنه “شُيّد قوس النصر في المدخل الشرقي للمدينة خلال فترة الإمبراطور الروماني من أصول أفريقية سبتميوس سيفيروس، وذلك عام 195 م، ولا يزال قائما إلى الآن”.
شُيّد قوس النصر في المدخل الشرقي للمدينة
أما وسط المدينة، “فتهيمن عليه الفوروم (الساحة العامة) التي تطل عليها معالم مهمة عدة، كمعبد الكابيتول المخصص للديانة الرسمية الرومانية، ومعلم البازيليك الذي يخصص للاجتماعات الرسمية وإقامة المحاكمات”، وفق النداري.
ويضيف “يتوسط المدينة سوق لا تزال آثاره ظاهرة للعيان من خلال ساحة وسطى مرصوفة تحيط بها دكاكين صغيرة وأروقة، وبجانبه تمّ العثور على بقايا حمامات رومانية مكوّنة من قاعات عدّة، باردة ودافئة”.
ويشير النداري إلى أنه “في الجهة الشمالية للمدينة، تمّ اكتشاف بقايا مسرح ومنازل تمّ تزيينها بلوحات فسيفساء، وأهمها لوحة “جزر المتوسط”، وهي لوحة فريدة من نوعها تبلغ مساحتها نحو 30 مترا مربعا، وتمثل صورة جزر الحوض الشرقي للمتوسط وأسمائها”.
تراث مسيحي.. وحياة ثقافية
عن التراث المسيحي للمدينة، يقول النداري إنه “يمكن ذكر عدد من الكنائس التي تتوسط أميدرا، وأخرى على الضفة اليمنى لوادي حيدرة الذي يشق المدينة”.
“أما المعلم الأكثر شهرة في المدينة، فهو الحصن البيزنطي الذي يمسح قرابة 2.5 هكتار، والذي تم بناؤه في بداية القرن السادس الميلادي”، بحسب النداري.
الحصن البيزنطي تم بناؤه في بداية القرن السادس الميلادي
ويلفت إلى أن “حيدرة عُرفت بوجود نخبة حذقت اللغتين اللاتينية (لغة التخاطب اليومي) والإغريقية (لغة العلوم والآداب)، فقد عثر في المدينة على نقوش شعرية عدة كتبت بهاتين اللغتين”.
حفريات لتثمين آثار المدينة
يقول عادل السعدي -ممثل المعهد الوطني للتراث في حيدرة- إنه “في 2003 و2004، وإثر حفريات مشتركة تونسية فرنسية، تم اكتشاف طريق تجاري يعود إلى العهد الروماني ويربط بين قرطاج وحيدرة وصولا إلى تبسة، وهو أهم طريق رسمي في شمال أفريقيا خلال العهد الروماني”.
ويضيف السعدي -في حديث للأناضول- أن “هناك طريقا آخر يربط بين حيدرة وقابس (جنوب شرق) مرورا بتلابت (ولاية القصرين) وقفصة (جنوب غرب)، وكلها طرق تجارية وعسكرية وإدارية”.
المصدر : وكالة الأناضول