الرباط – بمناسبة الذكرى المئوية لمعركة أنوال التي مني فيها الجيش الإسباني بهزيمة ساحقة على يد المقاومين الريفيين شمالي المغرب، صدر كتاب جماعي باللغتين الفرنسية والعربية عن مجلة الدراسات والنقد الاجتماعي “نقد” عنوانه “عبد الكريم الخطابي وتحرير المغرب الكبير 1921-2021″، وشارك في هذا العمل الجماعي مؤرخون وباحثون في التاريخ من المغرب والجزائر وإسبانيا.
وعي مغاربي
يقول أحد المشاركين في هذا الكتاب الجماعي المؤرخ المغربي المصطفى بوعزيز إن الكتاب حصيلة عمل وجهد وتنسيق مغاربي امتد سنوات.
وأوضح في حديث مع الجزيرة نت أن لقاء جمع مغاربة وجزائريين وتونسيين منذ سنوات، خُصص للتفكير في صيغة من صيغ إيجاد وعي مغاربي.
ويضيف أن العمل انصبّ على إنشاء شبكة مغاربية تجمع المثقفين ومؤسسات المجتمع المدني، من بين مهامها الاحتفاء بالرموز المغاربية مغاربيا، إذ سيتم الاحتفاء بعبد القادر الجزائري في المغرب، وبعبد الكريم الخطابي في الجزائر، وبفرحات حشاد في موريتانيا، وبحرمة ولد بابا في ليبيا.
كتاب “عبد الكريم الخطابي وتحرير المغرب الكبير 1921-2021” الصادر حديثا
ويأتي هذا الكتاب الجماعي ضمن هذه الجهود، وينتظر قريبا تنظيم ندوة في المغرب عن شخصية عبد القادر الجزائري وتراثه ومقاومته للاحتلال الفرنسي.
بطل الريف
يعود المؤرخ بوعزيز في مقاله المنشور في هذا الكتاب إلى كتابات جرمان عياش الذي أخرج بطل الريف من التصور الأسطوري ليدرجه ضمن الواقع التاريخي، حسب تعبيره.
ويشير إلى أن هذا المؤرخ المغربي خصص أكثر من 30 سنة لتنقية الكتابات عن تاريخ المغرب من العقلية الاستعمارية، وخصص أكثر من ثلثي كتاباته لبناء موثوق به لأحداث الريف، وسرد سرد دقيقا سيرورة المعارك، وفصل في كيفية نشوء تقنية حرب العصابات في حرب التحرير، ونسب ابتكارها إلى محمد بن عبد الكريم الخطابي.
وتناولت ماريا روسا دي مادرياغا سيرة محمد بن عبد الكريم الخطابي ومساره والبيئة الأسرية والقبلية التي نشأ فيها، فوالده ينتمي إلى ما يمكن تسميته بـ”النخبة المثقفة”، وأصرّ على تعليم أولاده ومنهم محمد في أهم المؤسسات التعليمية والجامعات.
وحسب المؤرخة دي مادرياغا، فإن والد محمد كان يرى -عكس العديد من أفراد قبيلته المعادية للعلاقات مع الأوربيين عموما- أن المساعدة الخارجية ضرورية لإخراج شعبه من حالة التخلف، لذلك كان في البداية متعاونا مع الإسبان.
من التعاون إلى المقاومة
غير أن الشكوك داخلت الوالد وابنه محمد، إذ تأكدا لاحقا من أن إسبانيا “لم تكن قادرة على أداء أي وظيفة من شأنها نشر الحضارة”، فلم تبن المدارس أوالمستشفيات أو الطرق، وكان العساكر يحكمون القبائل ويديرونها إدارة مباشرة ويواصلون خططهم لغزو الأراضي.
ثم مضت مادرياغا في الحديث عن دور محمد الخطابي، بعد وفاة والده سنة 1921، في توحيد القبائل الريفية “في مواجهة العدوان الاستعماري من خلال تعزيز الشعور بالانتماء للأمة”، فانتشرت حركة المقاومة، وسقطت كل المراكز العسكرية في يد الخطابي ورجاله، غير أن تحالفا فرنسيا إسبانيا استعمل كل الوسائل والأسلحة الممكنة وغير الممكنة من القنابل المتفجرة والحارقة إلى الغازات السامة جعل الخطابي يعلن الاستسلام تجنبا لمعاناة شعبه.
الكتابات التاريخية
وعرض الباحثان ميمون أزيزا وشاكر تبهوت للكتابات التاريخية التي تناولت المقاومة الريفية، وخلص الباحثان إلى أن هذه الكتابات 4 أصناف؛ الصنف الأول يتمثل في الكتابات الذاكراتية، وهي عبارة عن مجموعة من المذكرات التي كتبها أو رواها مقاومون كانوا فاعلين في الأحداث، والصنف الثاني يتمثل في مؤلفات الوطنيين المغاربة، أما الصنف الثالث فيتجلى في كتابات مختلف الفاعلين في مغرب ما بعد الاستقلال وهم الذين يمتهنون أعمالا أخرى غير إنتاج المعرفة التاريخية.
أما الصنف الرابع فيرتبط بكتابات المؤرخ المحترف، وهذه الكتابات أنتجها مؤرخون مارسوا التاريخ كحرفة، وهمهم الأساسي إنتاج المعرفة التاريخية.
وتطرق دحو جربال إلى دور الخطابي في تأسيس جبهة مشتركة بين شعوب شمال أفريقيا المسلمة ضد الإمبريالية الفرنسية، وتحدث عن اللقاءات التي جمعت الخطابي بأفراد المقاومة الجزائرية والتونسية من أجل تأسيس مكتب المغرب العربي وإنشاء جيوش تحرير المغرب العربي.
ويرى محمد خرشيش من خلال مقاله المنشور في الكتاب أن تدخل فرنسا باعتبارها قوة إمبريالية في النزاع بين إسبانيا والمقاومة الريفية يشكل مقدمة لاختلال عميق بين الجهتين، رغم الانتصارات غير المتوقعة التي حققتها الحركة الريفية في الأشهر الأولى من الاصطدام العسكري في أبريل/نيسان ويوليو/تموز 1925.
وقدم برنابي لوبيز غارسيا قراءة في عدد من الوثائق التاريخية، وخلص في النهاية إلى أن الاستقلال الذي حصل عليه المغرب في عام 1956 لم يكن هو الاستقلال الذي ناضل عبد الكريم الخطابي من أجله، فقد كان استقلالا غير كامل، على حد وصفه.
وأضاف أن “التبعية المتبادلة مع فرنسا، التي كانت العناصر الوطنية ترتاب فيها بشدة وقت المفاوضات، تحولت إلى حقيقة في نهاية المطاف، وهي حقيقة كان عبد الكريم تصدّى لها في السنوات التي أعقبت الاستقلال”.
الذاكرة الجماعية والذاكرة العلمية
ويقول المؤرخ المصطفى بوعزيز للجزيرة نت إن الانتاج الأكاديمي عن الثورة الريفية ومحمد بن عبد الكريم موجود في الجامعة المغربية منذ 20 سنة، وأضاف أن النقاش بين المؤرخين حاليا بشأن المسافة بين الذاكرة الجماعية والذاكرة العلمية.
وتخضع الذاكرة الجماعية -حسب المتحدث- لسلطات مختلفة منها السلطة السياسية والدينية والسلطة المجتمعية والجهوية، أما الذاكرة العلمية فلا تخضع إلا للقواعد الأكاديمية والمناهج العلمية.
ويوضح أنه “كلما قصرت المسافة بين الذاكرتين يكون للتاريخ العلمي دور اجتماعي، إذ يساعد على فهم الماضي وتجاوزه بشكل حضاري وإيجابي، وكلما كانت المسافة بعيدة فهذا يعني أن التاريخ محاصر في فضاء ضيق هو الفضاء الأكاديمي”.
فما هو الحال في ما يتعلق بالخطابي وإرثه؟ يقول بوعزيز إن تطورا طرأ في السنوات الأخيرة نتيجة ضغط الوسط الأكاديمي بإنتاجاته الغزيرة، أدى بالذاكرة الجماعية إلى التعامل مع هذا الموضوع بطريقتها، فأصبحت معركة أنوال مثلا تذكر مثلها مثل معركة وادي المخازن.
ثورة الخطابي لها مستقبل
ويؤكد بوعزيز في مقالتيه بهذا الكتاب الجماعي فكرة مفادها أن “ثورة عبد الكريم الخطابي لم يكن لها غد لكن كان لها مستقبل”، ففي نظره -كما يشرح للجزيرة نت- فإن “الفكر الذي حمله الخطابي وآراءه والعمل الذي قام به كان يندرج ضمن تصورات لم يكن بإمكان الريفيين والمغاربة استيعابها، لذلك كان بالإمكان القيام بلحظة كبيرة كلحظة أنوال وما تلاها، لكن الحصيلة أن القوس أغلقت”.
ويضيف أن هذا الفكر لم يَضِع، فقد وُجِد له تأثير قوي في مناطق أخرى من العالم كانت مستعدة لفهم هذا الفكر واستيعابه والتفاعل الإيجابي معه، على صعيد قادة كبار مثل “مؤسس الصين الحديثة ماوتسي تونغ الذي يعترف بأنه أخذ عن الخطابي أسلوب حرب التحرير الشعبية كأداة أساسية لهزيمة الجيوش الكبيرة، وكذلك هو تشي منه الفيتنامي وتشي غيفارا… فهذا هو المستقبل”.
ويتابع “بدأ المغرب -وكذلك العالم العربي نسبيا- يستشف الطريق نحو كيفية هزم القوة والاستبداد بوسائل تتلاءم مع العصر، وتتلاءم مع اختلال موازين القوى، ويمكن القول إن الربيع العربي هو أحد أشكال هذا المستقبل الذي تحدثت عنه”.