إذا طالعتَ كتابَ ‘سِيَر أعلام النبلاء‘ الجليل الحافل للإمام الذهبي (ت 748هـ/1348م) وتفرّست أحوال العلماء التجار المترجَمين فيه؛ فلا بد أن تستوقفك مئات المعلومات والأخبار العجيبة عن مشاهير من أهل المعرفة جمعوا بين العلم والتجارة، وهي ليست تجارة محدودة للتكفف عن السؤال بل تجارات هائلة الحجم تتوخى توليد أرباح عظيمة، فأحد هؤلاء العلماء “لم يكن في الدنيا أيسر منه من التجار”! وعندما توفي “خلّف ثلاثمئة ألف دينار (= اليوم 50 مليون دولار أميركي تقريبا)”، وكان يقول: “ليس في الدنيا مثل داري”!!
وفي كتاب ‘الأنساب‘ للإمام أبي سعد السمعاني المروزي (ت 562هـ/1166م) ترجماتٌ لمئات العلماء المنسوبين إلى مِهَنِهم وصنائعهم، وإفادةٌ بوجود من صنّف مبكرا -خلال القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي- في سِيَر العلماء العاملين في هذه المهن.
فقد قال السمعاني عن أبي عبد الله محمد بن إسحق السعدي الهَرَوي الشافعي (ت نحو 285هـ/898م): “رأيتُ في تصنيفه كتابا حسنا ببخارى أظنه لم يُسبَق إلى ذلك، سمّاه: ‘كتاب الصُّنّاع من الفقهاء والمحدِّثين‘”!! وذكر أنه أورد فيه من العلماء الذين تعاطوا تجارة العطور وحدها “جماعة كثيرة قريبا من خمسين نفْساً”.
كما أعدّ الباحث عبد الباسط بن يوسف الغريب دراسة أصدرها بعنوان: ‘الطرفة فيمن نُسب من العلماء إلى مهنة أو حِرفة‘، فأورد فيها تراجم لنحو 1500 عالم موزَّعين على زهاء 400 صنعة ومهنة كانوا يتكسبون منها.
والحقيقة أن العلاقة بين التجارة والعلم في حياة المسلمين تعكس -عبر القرون- صميم الاتصال بين شؤون الحياة وتعاليم الإسلام، حيث تداخلت خطوط التجارة مع حركة الدعوة ورحلات طلب العلم ولو كان الجميع في الصين؛ ففي كل قافلة بضاعة وتاجر وعالِم ومتعلّم وكتاب، في مركب حضاري بهيج، يكمّل بعضُه بعضا دون انفصام أو تضارب.
ومَن لم يلتفت بشكل معمق لفلسفة الاتصال تلك فلن ينجح في فهم الإسلام الذي أقام هذا التوازن الشديد بين المادة والروح، فضلا عن حساسية الاستقلال التي كانت تضرب في عمق عند علماء المسلمين، الذين كانوا يتحسسون تجاه كل ما يمسّ استقلالهم في التكفير والتعبير والرأي والاستنباط، وكل ما يمكن أن يمسّ بأمانتهم أمام الله وكذلك مكانتهم أمام الناس، وكانت وفرة المال من ضمانات استقلالية جماعة العلماء واستمرارية الدعم الذاتي للحركة العلمية.
لذلك قد لا نندهش لما أوردته الباحثة أوليڨيا ريمي كونستَبل -في دراسة ضمن كتاب أعده مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان ‘الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس‘- من إحصائية أعدها هـ.ج. كوهِن، وذكر فيها “أن 4200 مادة (= ترجمة) -من أصل 14000 تصف العلماء في كتب السِّيَر- كانت تحتوي على معلومات تخص المهنة التي يمارسونها”.
وأضاف كوهن أنه “من هذا العدد يوجد: 22% منهم يعمل في تجارة أو صناعة النسيج، و13% في صناعة الطعام، و4% في المجوهرات، و4% في العطور، و4% في الجلود، و4% في الكتب، و3% في المعادن، و2% في الخشب، و2% في التجارة العامة، و9% في مهن أخرى. وإلى جانب هذه المهن المحددة يوجد 3% كانوا يعملون بالصرافة، و2% في السمسرة والوكالات التجارية”.
وهذه الظاهرة العجيبة هي ما نسعى -في هذا المقال- للوقوف على جانب من تفاصيلها المثيرة، عبر جولة في الحياة المالية لنماذج معبِّرة من مشاهير علماء الإسلام من مختلف الأعصار والأمصار.
نشأة مبكرة
ربما لم يُتطرق كثيراً لمسألة العلاقة بين العلماء والتجار والتجارة، والواقع أنّ التجارة والتجار شغلوا بال الفقيه المسلم قديماً؛ لأن الدولة الإسلامية في بدايتها قامت أساسا على التجارة التي برع فيها أهل مكة من قريش حتى سادوا فيها بقية قبائل جزيرة العرب، فكانت لهم -كما قص علينا القرآن- رحلتان للتجارة: “رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام”؛ كما يقول الإمام الطبري (ت 310هـ/922م) في تفسيره.
ولذا نجد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مارس التجارة -قبل نزول الرسالة عليه- وكيلا عن السيدة خديجة بنت خويلد (ت 3ق.هـ/619م) -رضي الله عنها- في مالها، وقد “كانت.. امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم [من الربح]، وكانت قريش قوما تجارا..، [فكانت تفضّل النبي] وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار”؛ وفقا لرواية أبي القاسم السهيلي (ت 581هـ/1185م) في ‘الروض الأُنُف‘.
كما شارك النبي (ص) آخرين في تجارته؛ ففي ترجمة عبد الله بن السائب القرشي (ت 63هـ/681م) عند الذهبي في ‘السِّيَر‘: “وكان أبوه شريكَ النبي صلى الله عليه وسلم قبل المَبْعَث”. وهو هنا يشير إلى رواية الإمام أحمد (ت 241هـ/855م) -في مسنده- عن السائب بن أبي السائب أنه كان يشارك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام في التجارة، فلما كان يوم الفتح جاءه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مرحبا بأخي وشريكي، كان لا يُداري ولا يُماري»”.
وكذلك فعل أصحابه -رضوان الله عليهم- قبل إسلامهم وبعده، لأن الإسلام شجع الناس على التجارة وامتهان الحِرَف والأعمال طلبا للتكسب والمعاش وحذرا من البطالة والتواكل. ولذا نجد نفرا وافرا من أصحاب النبيّ (ص) كانوا تُجّاراً، حتى إن بعضهم امتلك رأس مال كبيرا بمعايير عصره، بل وبمقاييس عصرنا؛ كما تدل عليه معطيات إنفاقهم وما خلفوه ميراثا بعد وفاتهم، وكل ذلك حصلوه من تعاطيهم التجارة مضافا إليها أحيانا ما كانوا ينالونه من غنائم الفتح.
فالخليفة الراشد الأول أبو بكر الصدّيق (ت 13هـ/635م) نفسه كان تاجراً في مكة وظل كذلك بعد هجرته؛ فالطبري يقول إن الصدّيق “كان رجلا تاجرا، فكان يغدو كل يوم إلى السوق فيبيع ويبتاع”. وبعد توليه الخلافة بستة أشهر خاطب أصحابه قائلا: “ما تُصلحُ أمورَ الناس التجارةُ، وما يُصلحهم إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم، ولا بد لعيالي مما يُصلحهم، فترك التجارة واستنفق (= صَرَف) من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوما بيوم..، وكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة آلاف درهم (= اليوم 7500 دولار أميركي تقريبا)”.
وكان الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان (ت 35هـ/656م) من كبار تجار قريش والصحابة، حتى إن الطبري ينقل عنه قوله: “كنتُ أكثرَ قريش مالا وأجدَّهم (= أعظمهم حظًّا) في التجارة”. وفي ‘السيرة النبوية‘ لابن هشام (ت 218هـ/833م) أن النبي (ص) حين تجهز لغزوة تبوك سنة 9هـ/630م “حضَّ أهل الغنى على النفقة والحُمْلان (= دواب لحمل المجاهدين) في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحدٌ مثلَها..، [فقد] أنفق في جيش العُسْرة.. ألفَ دينار (= اليوم 180 ألف دولار أميركي تقريبا)”!! وفي ‘السُّنن‘ للترمذي (279هـ/892م) أن عثمان قال: “يا رسول الله علي ثلاثمئة بعير.. في سبيل الله”!!
تركات وكفالات
وعبد الرحمن بن عوف (ت 32هـ/654م) كان فقيرا لا مال له حين وصل المدينة مهاجرا، فاشتغل فيها بالتجارة حتى بات من أكبر أصحاب رؤوس الأموال في تاريخ الإسلام؛ يقول الذهبيّ -في ‘السِّيَر‘- عن ثروته الضخمة وكيفية استعماله لها: “تصدق ابن عوف على عهد رسول الله.. بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، وحَمل على خمسمئة فرس في سبيل الله، ثم حمل على خمسمئة راحلة في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة”. ثم أضاف الذهبي معلقا: “قلت: هذا هو الغنيُّ الشاكر”!!
وتحدث الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- عن تجارة الزبير بن العوام (ت 36هـ/657م) وميراثه منها عند وفاته؛ فذكر أنه “ثبت في الصحيح أن الزُّبَيْر خلَّف أملاكًا بنحو أربعين ألف ألف درهم (= اليوم 1.25 مليون دولار أميركي تقريبا) وأكثر”!! وكذلك أخبرنا -في ‘السِّيَر‘- عن النشاط التجاري للصحابي الجليل طلحة بن عبيد الله (ت 36هـ/657م) وما تركه من مال؛ فقال إنه “قـُتِل.. وفي يد خازنه ألفُ ألفِ درهم..، وقُـِّومت أصولُه وعقارُه ثلاثين ألفَ ألفِ درهم! وأعجبُ ما مرَّ بي قولُ ابن الجوزي (ت 597هـ/1200م)..: وقد خلّف طلحة ثلاثمئة حمل من الذهب”!!
ولم تكن التجارة مقتصرة على قادة الصحابة بل مارسها صغارهم ومواليهم؛ ففي ترجمة النووي -في ‘تهذيب الأسماء واللغات‘- لسعد بن عائذ المعروف بسعد القَرْظ المؤذّن (ت 39هـ/660م)، قال: “هو مولى عمار بن ياسر (ت 37هـ/658م)..، قال العلماء: أضيف إلى القرظ الذي يُدبغ به (الجلود)؛ لأنه كان كلما اتَّجر في شيء خسر فيه، فاتّجر في القرظ فربح فيه فلزم التجارة فيه، فأضيف إليه. جعله النبي.. مؤذِّنًا بقُباء، فلما ولي أبو بكر.. الخلافة -وترك بلالٌ الأذانَ- نقله.. إلى مسجد رسول الله (ص) ليؤذّن فيه، فلم يزل يؤذن فيه حتى مات”.
وعند النظر في سير التابعين وتابعيهم نجد أنهم ساروا على نهج الصحابة في تعاطي أنواع التجارة؛ فهذا ابن الجوزي يخبرنا -في ‘صيد الخاطر‘- أن سيد التابعين سعيد بن المسيب (ت 93هـ/712م) “مات وخلّف مالًا وكان يحتكر الزيت”. وكذلك كان الإمام سفيان الثوري (ت 161هـ/778م) يبيع الزيت أيضا، مستثمرا حصته من ميراث عمّ له كان يقيم في بخارى (تقع اليوم بأوزبكستان)؛ كما يخبرنا الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) في كتابه ‘تاريخ بغداد‘.
ويروي أبو نعيم الأصفهاني (ت 430هـ/1040م) -في ‘حلية الأولياء‘- أن الثوري هذا أجاب أحدَ طلابه حين استنكر اشتغالَه بالتجارة؛ فخاطبه زاجرا إياه: “اسكتْ! لولا هذه الدنانيرُ لَتَمَنْدَلَ بنا هؤلاء الملوكُ”، أي جعلونا كالمناديل يستخدمونها ثم يرمونها. ويروي الذهبي -في ‘السير‘- أن الإمام العابد المجاهد عبد الله بن المبارك (ت 181هـ/797م) كان تاجرا، فـ”أكثر من الترحال والتطواف -وإلى أن مات- في طلب العلم، وفي الغزو، وفي التجارة، والإنفاق على الإخوان في الله، وتجهيزهم معه إلى الحج”.
ومن العلماء التجار الكبار الليث بن سعد (ت 175هـ/791م) الموصوفة مكانته العلمية والسياسية -عند الذهبي في ‘السير‘- بأنه “الإمام الحافظ شيخ الإسلام وعالم الديار المصرية… ومن يفتخر بوجوده الإقليم، بحيث إن متولي مصر وقاضيها وناظرها [يعملون] من تحت أوامره، ويرجعون إلى رأيه ومشورته”؛ ثم يضيف مقدرا حجم أرباحه السنوية فيقول: “كان الليث يستغل عشرين ألف دينار (= اليوم 3.5 ملايين دولار تقريبا) في كل سنة”!!
دعوة للتموّل
مع تطور الزمن واتساع الدولة، وتوقف مشاركة العلماء في الجيوش وما تجلبه من مال الغنائم، وانفراط عِقد علاقة الثقة -في الغالب- بين الأمراء والعلماء؛ اضطرّ كثيرٌ من علماء المسلمين -فقهاء ومحدثين وغيرهم- إلى تعاطي التجارة، منعاً لأنفسهم من العَوَز والمسألةِ، وطلبا لاستقلالية مالية في موارد الرزق تُبقي العالم مستقلاً متبوعاً لا تابعاً، خاصة أن “للنفس قوة بدنية عند وجود المال، وهو معدود عند الأطباء من الأدوية”؛ كما يقول ابن الجوزي في ‘صيد الخاطر‘.
ولذا نجد عددا لا بأس به من العلماء -طوال الأعصار وفي كل الأقطار- تعاطوا التجارة أو الصناعة، حتى إن بعضهم لُقّب بمهنته وصناعته ونوع تجارته. وبذلك استطاع كثير من العلماء أن يحفظوا موارد قوتهم -بل ومتطلبات الإنفاق على الرحلات العلمية والكتب والمصنفات- بعيداً عن السلطةِ وقصور الحكم، وكثيراً ما اعتُبر ذلك مدحا للهم في كتب التراجم والطبقات التي خلدت سِيَر العلماء وأنماط حياتهم.
وقد التفت الإمام ابن الجوزيّ -بحصافته وبصيرته المعهودة- لتلك المسألة فكان خير من عبّر عن ضرورة أن يكون للعلماء مصادر دخلهم المستقلة عن سلطتيْ أصحاب الحكم وأرباب الأموال، لما لهذه الاستقلالية من صيانة للعلم وتجرد حملته في التعليم والفتوى؛ فنجده يقول في ‘صيد الخاطر‘: “ليس في الدنيا أنفع للعلماء من جمع المال للاستغناء عن الناس؛ فإنه إذا ضُمَّ إلى العلم حِيزَ الكمالُ؛ وإن جمهور العلماء شَغَلهم العلمُ عن الكسب، فاحتاجوا إلى ما لا بد منه وقلَّ الصبر فدخلوا مداخل شانتهم، وإن تأولوا فيها إلا أن غيرها كان أحسن لهم”!
ثم وجّه هذا الإمام دعوةً إلى أهل العلم -وهم في طور تحصيله- ليطلبوا الغنى في عرق الجبين: “فعليك -يا طالب العلم- بالاجتهاد في جمع المال للغنى عن الناس؛ فإنه يجمع لك دينك! فما رأينا في الأغلب منافقًا في التدين والتزهد والتخشع ولا آفةً طرأت على عالم إلا بحب الدنيا، وغالب ذلك [سببه] الفقر”!!
ثم نبه على مخاطر ترك التكسب بالكدح على مكانة العلماء في المجتمع؛ فقال: “رأيت عموم أرباب الأموال يستخدمون العلماء، يستذلونهم بشيء يسير يعطونهم [إياه] من زكاة أموالهم، فإن كان لأحدهم ختمة قال: فلان ما حضر، وإن مرض قال: فلان ما تردد، وكلُّ مِنَّتِهِ عليه شيءُ نزْرٌ يجب تسليمه إلى مثله، وقد رضي العلماء بالذلّ في ذلك لموضع الضرورة، فرأيت أن هذا جهل من العلماء بما يجب عليهم من صيانة العلم”.
ولم يقف ابن الجوزيّ عند هذا بل حمل همّ معاش العلماء، وأدرك أنّ هذه المسألة من آكد لوازم تحصيل العلم ومقومات استقلال الجماعة العلمائية: “فينبغي للعاقل إذا رُزق قوتا أو كان له مواد أن يحفظها ليتجمع همّه (= تفكيره)، ولا ينبغي أن يبذّر في ذلك فإنه يحتاج فيتشتت همّه، والنفس إذا أحرزت قوتَها اطمأنت. فإن لم يكن له مال اكتسب بقدر كفايته، وقلّل الغلوَّ ليجمع همَّه وليقنع بالقليل..، وترْكُ التشوُّفِ إلى الفضول أصلُ الأصول. ولما أيْأَسَ الإمامُ أحمدُ بن حنبل نفسَه من قبول الهدايا والصِّلات اجتمع همه وحسُن ذِكْره..، ثمّ فيمن يطمع؟ إنما هو سلطان جائر أو مُزَكٍّ مَنّانٌ”!
كفالة لازمة
ومن ناحية أخرى؛ ليس بإمكان كلّ المشتغلين بالعلم أن يتعاطوا صنائع أخرى، لأنها وإن كفلت للعالم نزْراً ولو يسيرا من قوت يومه وصيانة علمه، وحفظا لماء وجهه إلا أنها شاغلة له عن التحصيل والرحلة التي هي أهم سبل تحصيل العلم في تلك الزمان، ومعطلة له عن أوراده، وكابحة عن الانكباب على التصنيف والتأليف. ومن هنا؛ نظر الفقهاءُ إلى بيت مال المسلمين باعتباره ملكاً للأمّة لا للدولةِ، وأوجبوا على الحكام توفير العيش الكريم للعلماء ليتفرغوا للعلم دراسة وتدريسا، فإذا لم تقم الدولةُ بواجبها تجاههم وجب ذلك على عامّة الشعب وجوبا كفائياً.
ولذلك نجد الخطيب البغدادي يعقد -في ‘كتاب الفقيه والمتفقه‘- بابا سماه: “باب ذكر ما يلزم الإمام أن يفرض للفقهاء ومن نصَّب نفسه للفتوى من الرزق والعطاء”؛ فيقول فيه: “وعلى الإمام أن يفرض لمن نصَّب نفسه لتدريس الفقه والفتوى في الأحكامِ ما يُغنيه عن الاحتراف والتكسب، ويجعلَ ذلك في بيت مال المسلمين. فإن لم يكن هناك بيتُ مالٍ، أو لم يَفْرِضِ الإمامُ للمفتي شيئا، واجتمعَ أهل بلدٍ على أن يجعلوا له من أموالهم رزقاً -ليتفرغ لفتاويهم وجوابات نوازلهم- ساغَ ذلك”.
وينقل الخطيب عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م) أنه أرسل إلى واليه على حمص: “انظر إلى القومِ الذين نصّبوا أنفسهم للفقه وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا، فأعطِ كل رجل منهم مئة دينار (= اليوم 17 ألف دولار أميركي تقريبا)، يستعينون بها على ما هم عليه من بيت مال المسلمين”.
وقد كان بعض العلماء يقبل ذلك المال باعتباره حقا له في خزانة الدولة مقابل خدمته للمجتمع إمامة وتدريسا وإفتاءً، وبعضهم لم يكن يقبله. لكن الفكرة -من حيث المبدأ- تدل على أنّ عمر بن عبد العزيز شغلته مسألة استقلال الجماعة العلمائية، فجعل لها مالا من بيت مال المسلمين مكافأة لخدماتها المجتمعية، مثلها مثل الجُنْد وسائر موظفي مؤسسات الدولة!
وعبارة الخطيب البغدادي الآنفة تفترض -من واقع اضطراب أحوال الدولة الإسلامية منذ منتصف القرن الثالث الهجري- غيابا أو ضعفا قد يعرض لبيت مال المسلمين، أو عدم تحديد السلطة مخصصات مالية للعلماء؛ فجعل ذلك واجباً على العامّة جميعا قياسا على جهاد العدو، ولسنا في حاجةٍ للتدليل على أنّ جهاد العدو لا يكون بالعساكر فحسب، وإنما أيضا بالعلوم والمعارف.
موكب متواصل
بمرور الزمن وبدءا من القرن الخامس تقريبا؛ ازداد اعتماد الفقهاء على عطايا الدولة وأهل السلطة والمال، وخاصة بعد مأسسة مناصب الفتوى والقضاء والخطابة وغيرها من الوظائف الدينية، وبروز مشيخات المذاهب التي كانت تنظم العملية الدراسية والإفتائية فيها، وإنشاء المدارس واستحداث تقليد الكراسي العلمية الوقفية فيها وفي الجوامع؛ ورغم ذلك ظل هناك إفتاء أهليّ وجماعة علمائية رفضت الانصهار أو الذوبان -بل وحتى مجرد القرب- من مناصب السلطة الرسمية، خشية الارتهان لحساباتها ومواقفها.
ولكي يعفّ العلماء أنفسَهم عن المسألةِ -على نحو ما طالبهم به الإمام ابن الجوزي آنفاً- اشتغل كثير منهم بالتجارة، بدءا من عهد التابعين -كما رأينا- وحتى العصور المتأخرة؛ أي أن فريقا من العلماء لم يرض بعطايا أرباب المال من التجار والحكام، بل تاجر بنفسه وجعل رحلته علما وطلباً وتجارةً أو حرفةً في نفس الوقت؛ فكان منهم الحداد والنجار والخياط والدباغ والصباغ والجصاص والعطار والصائغ والوراق… إلخ. ومن أراد التوسع في هذا الباب فليراجع المصادر التي ذكرناها في مقدمة المقال، مثل كتاب ‘الأنساب‘ للإمام السمعاني ودراستيْ الباحثيْن عبد الباسط الغريب وأوليڨيا كونستَبل.
ويكفي للدلالة على اتساع ظاهرة العلماء التجار أن الإمام الذهبي ترجم لنحو 150 عَلَمًا منهم في كتابه الجليل الحافل ‘سير أعلام النبلاء‘، وسنورد هنا نماذج ذات مكانة علمية بارزة -بعد عصر التابعين وتابعيهم- من مختلف التخصصات الشرعية ممن أورد هو تراجمهم، مع ألقابهم العلمية عنده، وما سجله بشأن حجم ثرواتهم، وتباعُد المسافات التي قطعوها في تجاراتهم، حتى إن بعضهم سار فيها من الأندلس إلى الصين!!
فقد ترجم للمحدث الكبير يوسف بن زريق (ت 222هـ/837م) فقال إنه “ذهب إلى مصر في التجارة ومات بها”. وذكر ابنَ عمار الموصلي (ت 242هـ/856م) فعرّفه بأنه “الإمام الحافظ الحجة محدث الموصل..، وكان يعالج التجارة فقدم بغداد مرات وحدَّث بها”. وفي ترجمة الجمال بن محمد البغدادي (ت 346هـ/957م) قال إنه “الشيخ المُسْنِد الثقة مُحدِّث سمرقند (تقع اليوم بأوزبكستان)..، ارتحل [لتحصيل العلم] وكان يسافر في التجارة”.
ومن العلماء الذي جمعوا بين بسطة العلم واتساع الثروة دَعْلَجُ بن أحمد السِّجِسْتاني/السِّجْزي (ت 351هـ/964م) الذي يصفه الذهبي بأنه “المحدث الحُجَّة الفقيه الإمام.. التاجر ذو الأموال العظيمة..، سمع -بعد الثمانين (= سنة 280هـ/893م)- ما لا يوصف كثرةً بالحرمين والعراق وخراسان..، حال جَوَلانه في التجارة”، ومع انشغاله التجاري بلغ شأوا عظيما في العلم حتى نُعت بأنه “الفقيه شيخ أهل الحديث في عصره”! وكان الإمام الدارقطني (ت 385هـ/994م) يقول: “ما رأيتُ في مشايخنا أثبت من دعلج”!!
ويحدثنا الذهبي عن حجم ثروة الإمام دعلج المتحصلة من تجارته؛ فيذكر أنه “قيل: لم يكن في الدنيا أيسر منه من التجار”! وأنه عندما تُوفي “خلّف ثلاثمئة ألف دينار (= اليوم 50 مليون دولار أميركي تقريبا)”، كانت أولَ ميراث تعتدي عليه السلطات البويهية في بغداد بالمصادرة! وبلغ به الحال أنه “كان يقول: ليس في الدنيا مثلُ داري! وذلك لأنه ليس في الدنيا مثلُ بغداد، ولا ببغداد مثل محلة القطيعة، ولا في القطيعة مثل درْب أبي خلف، وليس في الدرب مثل داري”!! وإضافة إلى هذه الدار العجيبة ببغداد؛ “اشترى دعلج بمكة دار العباسية بثلاثين ألف دينار”!!
رحلات تجارية
ومن علماء الأندلس التجار إسحقُ ابن مَسرَّة التُّجِيبي الطُّليْطُلي (ت 354هـ/967م)، وهو “الزاهدُ أحدُ الأعلام بقرطبة، كان يتّجر بها في الكتّان، وكان من أهل العلم والعمل وممن لا تأخذه في الله ملامة..، كان من أحفظ العلماء للمسائل”.
وهذا ابن جميع الغساني الصيداوي (ت 403هـ/1013م) وهو “الشيخ العالم الصالح المسند المحدث الرحال… كان أسند من بقي بالشام [للحديث النبوي]”، وعدد له الذهبي عشرات الشيوخ من الأئمة الكبار في ثلاثين من حواضر الشام والعراق وفارس والحجاز ومصر، ثم علق بأنه “أعانه على لُقِيِّ هؤلاء في هذه البلاد الشاسعة سفرُه في التجارة”! كما ذكر في ترجمة الإمام الحافظ خلف الواسطي (ت بعد 400هـ/1010م) مصنف كتاب ‘أطراف الصحيحين‘؛ فقال إنه “سافر الكثير في التجارة”. ومن نوادر الواسطي هذا أنّه روى عنه شيخُه الإمامُ الحاكم النيسابوري (ت 405هـ/1015م) مؤلِّفُ ‘المُستدرَك على الصحيحين‘.
وحين عرّف بالتاجر الأندلسي سعد الخير الأنصاري (ت 541هـ/1146م)؛ قال إنه “الإمام المحدث المتقِن الجوّال الرَّحّال.. التاجر، سار من الأندلس إلى إقليم الصين [للتجارة]، فتراه يكتب [في نسبته]: سعد الخير الأندلسي الصيني، وكان من الفقهاء العلماء”. وفي ترجمة أبي تمام العباسي البغدادي (ت 543هـ/1148م)، قال إنه “الشيخ الجليل مُسنِد وقته.. التاجر الجَوّال..، توفي بنيسابور بعد أن أكثر من التجارة بالبحار والهند والتُّرْك”!!
ومنهم أبو الفَرَج ابن كُلَيب الحرّاني الحنبلي (ت 596هـ/1200م) الذي وصفه الذهبي بأنه “الشيخ الجليل الأمين مسند العصر.. التاجر..، انتهى إليه علوُّ الإسناد..، وكان من أعيان التجار ذا ثروة واسعة”! وقد بلغ من ضخامة تجارته ما حكاه ابن النجار (ت 643هـ/1245م) -في ‘ذيل تاريخ بغداد‘ راويا عن شيخه ابنِ الجوزي تلميذِ ابنِ كُليب- من أنه “عمِل دعوةً (= وليمة) ببعض بلاد خراسان في زمن الصيف وتكلف تكلفا كثيرا، وكان من جملته أنه حمل أحمالا من عمل مصر.. [وكان] لها قيمة كثيرة”!ٍ!
وممن جمعوا بين الفتوى في العلم والبراعة في الشعر والجسارة في السياسة والمهارة في التجارة: الفقيهُ الشافعي عمارة اليمني (ت 569هـ/1173م)؛ فقد جاء في ترجمته عند الذهبي أنه “كان شديد التعصب للسنة، أديبا ماهرا رائجا في الدولة [الفاطمية]..، وهو من بيت إمْرَة وتقدُّم من تهائم اليمن..، [وكان يُعَدُّ] من أكابر التجار وأهل الثروة، ومن أعيان الفقهاء الذين أفتوْا، ومن أفضل أهل الأدب”!!
ومن العلماء التجار الذين أمدنا الذهبي بأرقام عن ثرواتهم: أبو الرضا الكرْكي البغدادي (ت 592هـ/1195م)؛ فهو “المحدث العالم.. التاجر الشيعي..، كان حريصا على السماع وعلى تحصيل الأجزاء.. وكان ثقة..، خلّف [عند موته] تجارة بثلاثة آلاف دينار”!!
ومن مشاهير الأئمة التجار ابن الأخضر الجنابذي (ت 611هـ/1214م)، وهو “الإمام العالم المحدِّث الحافظ.. مفيد العراق.. التاجر البزّاز (= بائع البَزّ: الثياب)..؛ قال ابن النجار..: قرأتُ عليه كثيرا في حلقته وفي حانوته للبَزِّ في خان الخليفة (ببغداد)، وكان ثقة حجة نبيلا، ما رأيت في شيوخنا مثله في كثرة مسموعاته، وحسن أصوله وحفظه وإتقانه”! وفي ترجمة الذهبي لكمال الدين ابن الجلاجلي البغدادي (ت 612هـ/1215م) وصفه بأنه “التاجر الرئيس المقرئ..، وجال من مصر إلى الهند وما وراء النهر في التجارة، وكان صادقا كيِّساً مُحتشِما حَفَظَةً للحكايات”.
زهد واعتزال
ويورد مؤرخ حلب ابن العديم (ت 660هـ/1262م) -في ‘بُغْية الطَّلَب‘- قصة عجيبة عن أحد العلماء التجار الرحالين، كان له إنفاق واسع على مكافحة الحركات السرية الهدامة مثل الحشاشين، مما جعلهم يحاولون اغتياله؛ فيقول فيها -متحدثا عن إحدى رحلاته التجارية ومقدما لنا معطيات عن مقدار ثروته- إنه “في شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسمئة (= 1155م) وصل إلى حلب رجل كبير فقيه تاجر يقال له أبو حرب عيسى بن زيد بن محمد الخُجَندي، ومعه خمسمئة جمل عليها أحمالُ أصنافِ التجارات..، فقام في غلمان له يستعرض أحماله وحوله جماعة من مماليكه وخَدَمه”!
وإلى جانب العلماء الذين مارسوا بأنفسهم التجارة؛ وُجد أبناء العائلات التجارية الذين فرّغوا أنفسهم لطلب العلم ونشره مستعينين بثروات آبائهم وإخوانهم. ومن نماذج هؤلاء ما حكاه الخطيب البغدادي -في ‘تاريخ بغداد‘- من أن أبا جعفر الصوفيّ المعروف بابن الفَرَجي (ت بعد 270هـ/883م) “كان من أبناء الدنيا وأرباب الأموال، وورث مالا كثيرا فأخرجه جميعه وأنفقه في طلب العلم، وعلى الفقراء والنساك والصوفية. وكان له موضع من العلم والفقه ومعرفة الحديث [لكونه] لزم علي ابن المديني (ت 234هـ/848م)”.
ومنهم أيضا “محمد بن أحمد.. الأصبهاني (ت 282هـ/895م).. الحافظ المعروف بالعسّال، صاحب المصنفات…؛ كان أبوه أحمد من كبار التجار المتموِّلين، وقف أملاكه على أولاده وهي بساتين ودُور وحوانيت”؛ حسب الذهبي في ‘السير‘. وكذلك أبو العلاء الهمذاني الحافظ (ت 569هـ/1173م) الذي ترجم له الذهبي -في ‘تذكرة الحفاظ‘- فقال إنه “كان مُهينًا للمال [فـ]ـباع جميع ما ورثه وكان من أبناء التجار، فأنفقه في طلب العلم حتى سافر إلى بغداد وأصبهان مراتٍ ماشيًا يحمل كتبه على ظهر”. ومع فقر الهمذاني هذا -بعد غناه- فإنه “كان لا يأكل من أموال [السلاطين] الظَّلَمَة ولا يقبل منهم [تولِّي] مدرسةٍ قطُّ ولا رباطًا”!!
ولئن لم تسعفنا المصادر بذكر نساء عالمات تاجرات؛ فقد أفادتنا بترجمة محدِّثة جليلة تنتمي إلى إحدى عوائل التجار الأندلسية، فوالدها هو سعد الخير الأنصاري السابق ذكره؛ وأما هي فقال عنها الذهبي: “الشيخة الجليلة المسندة.. فاطمة بنت المحدّث التاجر أبي الحسن سعد الخير.. الأنصاري البلنسي..، ورأتْ عِزًّا وجاهاً”، ثم يعلق الذهبي قائلا: “أجازت لشيخنا أحمد بن أبي الخير سلامة (ت 678هـ/1279م)”!
ومع تعددية الانتماء المذهبي والتخصص المعرفي للعلماء التجار؛ تنوعت مناشطهم التجارية حتى شملت مختلف أنواع البضائع والسلع، وأصبح كثير من العلماء لا يتميز اسم أحدهم عن مشابهيه في الاسم إلا بنسبته إلى نوع تجارته؛ ولذا كثيرا ما أخبرتنا كتب التراجم عن نوع التجارة التي تعاطاها هؤلاء، فكان منهم القطان والبزّاز والزيات والجوهري والحريري والكُتُبي… إلخ.
ولذلك يخبرنا الذهبي -في ‘تذكرة الحفاظ‘- بأن الإمام “الحافظ المتقِن المجوِّد” غُندر ابن جعفر البصري (ت 193هـ/808م) “كان يتجر في الطيالسة والكرابيس (= ثياب القطن)”. ويقول ابن حجر -في ‘الدرر الكامنة‘- إن العالم أحمد بن عبد الكريم الغرناطي (ت 739هـ/1339م): “كان قانعا متعففا حسن الخلق يتكسب من التجارة في القطن”.
خسائر تجارية
كما ذكر أن الفقيه الشافعي شهاب الدين أحمد بن محمد الأنصاري (ت 773هـ/1372م) جمع إلى التجارة تكسُّبه من الزراعة، حيث “نشأ بالقاهرة وجلس مع الشهود [عند القضاة]، وتكسب في التجارة والزراعة فأثرى وكثر ماله..، ووقَف على تدريسٍ بالجامع الأزهر”.
كما تعاطى العلماء أنشطة مكملة للعمليات التجارية مثل السمسرة بين التجار والمشترين، مع التعفف فيها عن كل ما يُخلُّ بمكانتهم وأمانتهم؛ وممن مارسها في بيع الفُرُش المعدّة للبسط -والتي تسمى “الأنماط”- حجاج بن منهال البصري الأنماطي (ت 216هـ/831م)، وقد نعته الذهبي -في ‘السير‘- بأنه “الحافظ الإمام القدوة العابد الحجة..، كان سمسارا يأخذ من كل دينار حبة، فجاء خراساني موسِرٌ -من أصحاب الحديث- فاشترى له أنماطاً، فأعطاه التاجر ثلاثين دينارا، فقال: ما هذه؟ قال: سمسرتك! قال: دنانيرك أهونُ عليّ من هذا التراب! هاتِ من كل دينار حبة، فأخذ منه دينارا وكَسْراً”!!
ولم يكن العلماء -كغيرهم من التجار- بمأمن مما يلحق التجارة أحيانا من خسائر فادحة قد تُخرج صاحبها من السوق، وترده إلى درجة الصفر المالية؛ فالإمام أبو الفرَج ابن كُليب الحراني المتقدم ذكْرُه يقول ابن النجار البغدادي إنه حدَّث تلامذته يوما بما كان عليه حاله من ثراء واسع؛ فقال: “وصلني خبرٌ مرةً عن مملوك لي غرِق في البحر بما كان لي معه [من مال]، وكان مقداره ستة آلاف دينار (= اليوم مليون دولار تقريبا) أو أكثر؛ فلم أتأثر لذلك لِسَعَةِ حالي”!! ثم كانت عاقبته أنه “لم يَمُتْ حتى طَـلب من الناس” ما يَسُدُّ به حاجته!!
ويقول الذهبي إنه “احتاج إلى الأخذ [من الطلاب على التدريس]، وبقي لا يُحدِّثُ بـ‘جُزْء ابن عرفة‘ إلا بدينار”!!
ومن اللافت أيضا أن بعض الصحابة والعلماء كان يتعاطى التجارة حتى إذا بلغ فيها شأواً انقطع عنها للزهادة، فتفرغ للعبادة الشعائرية وانكبَّ على العلم نشرا وتدريسا؛ فهذا الصحابي المفتي أبو الدرداء (ت 32هـ/654م) كان تاجراً في فترة من حياته لكنه تخلى عنها من أجل التفرغ للذكر والعبادة، وفي ترجمته يقول الذهبي في ‘السير‘: “قال أبو الدرداء: كنتُ تاجرا قبل المَبْعَث فلما جاء الإسلام جَمعتُ التجارة والعبادة، فلم يجتمعا فتركتُ التجارة ولزمت العبادة”!
ومثله “الفقيه الزاهد” ابنُ شاذَة النيسابوري الشافعي (ت 372هـ/985م) الذي قال ابن الصلاح (ت 643هـ/1245م) -في ‘طبقات الفقهاء الشافعية‘– إنه “كان يتّجر ثم ترك ذلك وجاور في الجامع سنين”!! وفي ترجمة حسن بن محمد التاجر (ت 747هـ/1347م) عند ابن حجر أنه “رجل صالح متدين، انقطع عن التجارة ولازم العبادة والجماعة ومجالس الحديث..، [ثم] عمل ميعادا (= مجلس وعظ أسبوعي) بالجامع ووقف عليه كتبا”.
ولم تقتصر ممارسة التجارة على حمَلة العلوم الدينية فقط، بل كان من ذوي الفنون الأخرى تجّار أيضاً؛ فقد ذكر القِفْطي (ت 624هـ/1227م) -في ‘إنباه الرواة على أنباه النُّحاة‘- أن العلامة النحوي البارع علي بن سعيد بن دبابا (ت نحو 560هـ/1165م) “كان يتّجر ويختلف إلى دمشق، فباع في بعض سفراته على نُوّاب [الأمير الأيوبي] أسد الدين شيركوه (ت 564هـ/1169م) متاعا، غلط أصحابُه بمئتيْ دينار..، فعمِل حسابَه فوجد الغلط فحمل الذهب إليهم، فجَزَوْه خيراً وشكروه”!!
خدمة معرفية
ووصف ابنُ أبي أصَيْبِعة (ت 668هـ/1270م) -في ‘عيون الأنباء في طبقات الأطباء‘- الطبيب جمال الدين بن الرَّحْبي (ت 658هـ/1260م) بأنه “هو الحكيم الأجل العالم الفاضل..، اشتغل بصناعة الطب على والده وعلى غيره وأتقنها إتقانا لا مزيد عليه، وكان حسن المعالجة جيد المداواة، وخدم في البيمارستان الكبير [النوري بدمشق]..، وكان يحب التجارة ويعانيها ويسافر بها في بعض الأوقات إلى مصر ويأتي من مصر بتجارة”.
لم تنحصر أهمية التجارة في كونها مقوِّما حيويا لاستقلالية العلماء في مواقفهم وآرائهم، ولا في اعتبارها موردا لاستمرارية عطائهم العلمي؛ بل كانت لها مهمة أخرى لا تقل مركزية عن ذلك إن لم تَفُقْهُ، ألا وهي دَورها في نقل المعارف والعلوم والآراء والمذاهب، وانتشار الكتب والدواوين والمصنفات، من قُطر إلى آخر عبر امتداد الرقعة الجغرافية الإسلامية المترامية.
فقد ساهم التجار -عموما وخاصةً العلماء وتجار الكتب منهم بالذات- في تناقل المؤلفات أو رواياتها المُسنَدَة بين البلدان البعيدة؛ حتى إن الباحثة كونستَبل توصلت -في دراستها السابقة- إلى وجود “وفْرة نسبية من المعلومات عن سيرة العلماء التجار القادمين إلى إسبانيا الإسلامية بين السنوات 414ـ432هـ/1023ـ1041م، فيذكر ابن بَشْكُوال (الأندلسي ت 578هـ/1181م) أسماء اثنين وعشرين من العلماء التجار خلالها..، [لكن] المعلومات عن العلماء التجار المشارقة تصبح نادرة بشكل فُجائي بعد أواسط القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي..، وربما يجب أن يُعزى تناقص أنشطة العلماء التجار إلى أسباب غير تجارية”.
ويقول ابن أبي أصيبعة في ترجمته للطبيب الأندلسي الكبير أبي العلاء بن زُهر (ت 525هـ/1131م) إنه “في زمانه وصل كتاب ‘القانون‘ لابن سينا (ت 428هـ/1038م) إلى المغرب..، [وذلك] أن رجلا من التجار جلب من العراق إلى الأندلس نسخة من هذا الكتاب قد بولغ في تحسينها، فأتحف بها لأبي العلاء بن زهر تقرُّباً إليه -ولم يكن هذا الكتاب وقع إليه قبل ذلك- فلما تأمله ذمَّه واطَّرَحه”!
وثمة تجّار كانوا يجلبون كتب دقائق العلوم النادرة من بلاد العجم من فارس إلى آسيا الوسطى؛ فقد جاء -في ‘عيون الأنباء‘- أنه “لما كان في سنة اثنتين وثلاثين وستمئة (= 1235م) وصل إلى دمشق تاجر من بلاد العجم، ومعه نسخة من شرح ابن أبي صادق (النيسابوري ت نحو 470هـ/1077م) لكتاب ‘منافع الأعضاء‘ لجالينوس (ت 216م)، وهي صحيحة معقولة من خط المصنف، ولم يكن قبل ذلك منها نسخة في الشام؛ فحملها أبي فكتب إليه [الطبيب البارع] عز الدين بن السويدي (ت 689هـ/1291م) قصيدةً مديحاً..، منها يقول:
وامْنُنْ فأنت أخو المكارم والعُلى ** بكتاب ‘شرح منافع الأعضاءِ‘
وإعارةُ الكتُبِ الغــــربية لم تَزَلْ ** من عادة العــلماءِ والفُـضلاءِ
فبعث إليه الكتاب وهو في جزءين؛ فنقل منه نسخة في الغاية من حسن الخط وجودة النقط والضبط”!
وكان من الآثار الطريفة لظاهرة العلماء التجار الرحالين أن أحدهم أحيانا يغلب عليه اسم بلد يُكْثر زيارته للتجارة، أو يطيل المقام به حتى يُنسب إليه وينسى نسبته إلى بلده الأصلي؛ ومن هؤلاء: سعد الخير الأندلسي المتقدم الذي لقب نفسه “الصيني”، وأحمد بن عيسى المصري المعروف بالتُّسْتَري (ت 243هـ/857م) لأنه “كان يتّجر إلى تُسْتَر (تقع اليوم غربي إيران) فعُرف بذلك” رغم كونه مصري الموطن؛ وفقا للخطيب البغدادي في ‘تاريخ بغداد‘.
هبات سخية
حرص كثيرٌ من التجار الصالحين على كفالة العلم والعلماء، دون أيّ تدخل منهم في لُبّ المسألة العلمية، لأنهم أولاً ليسوا على دراية بها، وثانياً اعتبروا الإنفاق على العلم والعلماء نوعا من الجهاد والعبادة، مثلها مثل الوقف الذي كان يفعله بعض التجار في مجالات العلم وخدمة المجتمع. وهذا الإنفاق على العلم والعلماء شبيه به ما يتمّ اليوم في المجتمعات الناهضة من إنفاق رجال المال والأعمال على البحوث العلمية، في حقول صناعة الدواء والاختراعات التقنية والحدّ من تلوث البيئة وغيرها.
لكن هذا لا يمنع أنه وُجد تجار وأرباب مال أرادوا استذلال العلماء، بغية إضفاء الشرعية عليهم، فصاحب المال -كصاحب السلطة السياسية- يرى أحيانا أنّه حين يكون عالم الدين بجواره يمنحه ذلك شرعية لأفعاله ومكانة بين الناس. ولذا يحذِّرُ ابنُ الجوزي العلماءَ من فئة التجار التي تطمع في استقطاب العلماء لاستنطاقهم بما يخالف الشرع، فيقول -في ‘صيد الخاطر‘- عن أحد أغنياء عصره إنه “استعبد كثيراً من العلماء بمعروفه”!
أما بالنسبة لأرباب المال ممن أنفقوا على العلم والجماعة العلمية فهم نوعان: تجار علماء وتجار من عامة الناس؛ ويأتي في مقدمة الصنف الأول الإمام عبد الله بن المبارك الذي يذكر الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه “كان يتَّجر في البَزِّ (= بائع البَزّ: الثياب)، وكان يقول: لولا خمسة ما تَجَرْتُ، فقيل له: يا أبا محمد! مَن الخمسة؟ فقال: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة (ت 198هـ/813م)، والفُضيل بن عياض (ت 187هـ/803م)، ومحمد بن السماك (الكوفي ت 183هـ/899م)، و[إسماعيل] ابن عُلَيَّة (ت 193هـ/809م)، قال: وكان يخرج فيتَّجر إلى خراسان، فكلما ربح من شيء أخذ القوت للعيال ونفقة الحج، والباقي يصل به إخوانه الخمسة”!
ومن هؤلاء أيضا الإمام الليث بن سعد؛ فالنووي يحدثنا -في ‘شرح مسلم‘- بأنه “لما قدم الليث [من مصر حاجًّا] أهدى له مالك (بن أنس ت 179هـ/795م) من طُرَفِ (= هدايا) المدينة، فبعث إليه الليث ألف دينار، وكان الليث مفتي أهل مصر في زمانه”! وعند الذهبي -في ‘السير‘- أنه “كان.. يصل مالكا بمئة دينار في السنة..، وأعطى.. ابنَ لَهيعة (ت 174هـ/790م) ألف دينار..، وأعطى منصور بن عمار (ت 225هـ/839م) الواعظ ألف دينار”.
ومن فئة تجار العامة التي بسطت رعايتها المالية على العلماء؛ إدريس العدل (ت 303هـ/915م) الذي يقول الطبري -في تاريخه- إنه “كان أمرُه قد علا في التجارة والمكانة عند السلطان، وكان.. يقول: يلزمني كل سنة في الحج نفقةً -غير ما أصرفه في أبواب البر- خمسةُ آلاف دينار (= اليوم 850 ألف دولار أميركي تقريبا)”.
صدقات وأوقاف
وكانت في تجارة الإمام دَعْلَج السجستاني السابق ذكره نصيب وافر لرعاية العلم وأهله؛ فقد قرر -وفقا للذهبي- “صدقاتٍ جاريةً على أهل الحديث بمكة وببغداد وسجستان (تقع اليوم بإيران)”. ويذكر ابن كثير (ت 774هـ/1373م) -في ‘البداية والنهاية‘- أنه “كان من ذوي اليسار والمشهورين بالبر والإفضال، وله صدقاتٌ جارية وأوقاف دارَّة دائرة على أهل الحديث ببغداد وسجستان..، وقد أنفق في ذوي العلم والحاجات أموالا جزيلة كثيرة جدا”.
ومن قصص بـِرِّ دَعْلَج بالعلماء أن الإمام أبا عمر بن حَيُّويَهْ الشافعي (ت 366هـ/977م) قال: “أدخلني دَعْلَج بن أحمد دارَه، وأراني بِدَرًا (= جمع بَدْرَة: كِيس نقود) من المال معبَّأة، فقال لي: خذ منها ما شئت! فشكرته، وقلت: أنا في كفاية”!!
ومن العلماء التجار الكبار الذين كان لهم فضل على زملائهم في العلم؛ الإمامُ المحدّث ابنُ رِيذَة الأصبهاني (ت 440هـ/1049م) الذي يصفه الذهبي بأنه “الشيخ العالم الأديب الرئيس مسند العصر.. التّانِي (= صاحب المال والعقار) التاجر..، كان أحد الوجوه (= الأعيان) ثقة أمينا وافر العقل، كامل الفضل مُكْرِماً لأهل العلم”.
وجاء في ‘سلك الدرر‘ لأبي الفضل المرادي (ت 1206هـ/1791م) أن “عمر بن إبراهيم.. السفرجلاني الدمشقي الشافعي (ت 1112هـ/ 1700م) –[وهو] أحد التجار المشاهير بدمشق وأصحاب الثروة- كان ذا وجاهة ومال زائد، وله يد طائلة في فعل الخيرات ومسارعة إلى صنائع المعروف والمَبَرَّات، بنى في دمشق أربعة مساجد..، وكان مشهوراً بفعل الخير”.
ومن التجار الكبار الذين رعوا ماليا أئمة العلماء وتكفلوا بمتطلبات استقلاليتهم العلمية وتفرغهم لرسالتهم المجتمعية؛ أبو منصور ابن يوسف (ت 460هـ/1068م) الذي كان تاجرا كبيرا حنبليَّ المذهبِ ومستشارا للخليفة العباسي القائم بأمر الله (ت 467هـ/1075م)، وهو الذي احتضن الإمام ابنَ عقيل الحنبلي (ت 513هـ/1119م) وهو لا يزال في مقتبل حياته العلمية وأمَّن له المساندة المالية والسياسية والمذهبية حتى أخذ مكانه في المشهد العلمي البغدادي.
رعاية المواهب
وقد جعلت هذه المساندة ابنَ عقيل يقول -في كتابه ‘الفنون‘- عن أبي منصور هذا: “لم أشهد مَنْ سلَكَ طريقةً في الجود والإحسان بحسب أحوال الزمان -من غير سؤال ولا تعريض لطلب نوال- إلا الشيخ الأجلّ السعيد أبو منصور بن يوسف، وظهير دولة [الخليفة] المستظهر بالله (ت 414هـ/1024م) إمام المسلمين: [التاجر] أبي طاهر يوسف (ت 512هـ/1118م)”.
ويقدم لنا ابنُ عقيل صورة عن إنفاق هذين الرجلين التاجرين اللذين كانا من أبرز رعاة العلم والعلماء في عصرهما؛ ووفقا لشهادته “فإنّ الأول (= أبو منصور) كانت مبارُّه (= صدقاته) أيامَ الأنداء والأمطار بالأحطاب والأدهان والدِّثار، وله على ذلك أصحاب أخبار (= مخبرون يتحسسون له حاجات الناس)؛ وفي شهر الصيام بالأطعمة للإفطار، وفي الأعياد لكلّ عيد ما يليق من الكِسْوات، مع الفطرة للفطر والحيوان للأضحى”. وأما التاجر أبو طاهر يوسف فـ”إن أطلّ [حدَثٌ] مُلَمٌّ واسى، وإن هجم مرض آسى، وإن أطلّ شهر صيام فتح بابه، وكشف حجابه للإفطار على طعامه، وأنفذ إلى ذوي التجمل (= التعفف) ما يكفيهم وعيالهم من أطايب طعامه”!
وهذه الخلال الجميلة كانت من هذين التاجرين للجميع وليس لابن عقيل وحده؛ أما ما اختصّا به ابنَ عقيل فيبينه لنا بقوله: “وعن نفسي أقول: الأول (= أبو منصور) ربّاني وآواني إلى أن صلحتُ للحلقة [التعليمية] فصدّوني (= بعض الحنابلة)، وقام بمئونة حلقتي [بجامع المنصور ببغداد] حتى الحُصُر والخِلْعة (= الثياب) الجميلة وتعهُّد الأصحاب (= الطلاب)، هذا وأنا ابن نيّف وعشرين! فلمّا تنيّفت (= زدت) على السبعين وناهزت الثمانين قام بأموري.. أبو طاهر يوسف..؛ [فـ]ـمهما دعوتُ الله وأحببتُ في دين الله، ونفيْتُ البدع عن شريعة محمد بن عبد الله (ص)، فهو في ميزانهما”.
ومن مشاهير التجار المصريين الذين اعتنوا بالعلماء: نور الدين علي بن عبد العزيز الخروبي (ت 802هـ/1399م) “التاجر الكارمي”، نسبة إلى تجارة “الكارم” وهي البهارات الهندية؛ فقد رعى هذا التاجرُ الكبيرُ الحافظَ ابنَ حجر (ت 852/1449م) وهو في بدايات طلبه العلم، فأسدى بذلك لاحقا خدمةً عظيمة للعلوم الإسلامية.
ويحدثنا عن ذلك ابن حجر نفسه -في ‘إنباء الغُمر‘- فيقول إن الخَرُّوبي “كان من أعيان التجار بمصر..، وكان ذا مروءة وخير.. ديِّناً متصوِّناً..، وكان والدي قد تزوج أخته..، فكانت بيننا مودة أكيدة، وكان بي بَرًّا محسنا شفوقا، جزاه الله خيرا”. ويكمل لنا تلميذه السخاوي (ت 902هـ/1497م) الصورة -في ‘الضوء اللامع‘- فيذكر أن الخروبي هذا “كان هو وأبوه وجده من أكابر تجار مصر..، وهو آخر تجار مصر من الخراربة، وخلَّف مالا كثيرا”!!
هذا وكان بعض العلماء يتعفف -رغم ضيق حاله- عن قبول ما يعرضه عليه التجار المحسنون من مساعدات مالية؛ فقد نقل ابن كثير عن عبد الله بن الإمام أحمد (ت 290هـ/903م) قوله واصفا حال عائلتهم أيام محنة القول بخلق القرآن: “كنا في زمن [الخليفة] الواثق (ت 232هـ/847م) في ضيق شديد؛ فكتب رجل إلى أبي: إن عندي أربعة آلاف درهم (= اليوم 5000 دولار أميركي تقريبا) ورثتُها من أبي وليست صدقة ولا زكاة، فإن رأيت أن تقبلها؟ فامتنع من ذلك، وكرّر عليه فأبى..، وعرض عليه بعضُ التجار عشرة آلاف درهم رَبِحَها من بضاعة جعلها باسمه، فأبى أن يقبلها وقال: نحن في كفاية وجزاك الله عن قصدك خيرا. وعرض عليه تاجر آخر ثلاثة آلاف دينار (= اليوم 500 ألف دولار أميركي تقريبا) فامتنع من قبولها وقام وتركه”!!
المصدر : الجزيرة