تجد المجتمعات ذات التاريخ الاستعماري والاستيطاني -والتي سيطرت على أرض ما وفرضت سلطتها على سكانها الأصليين، وشكلت دولا تحميها وترسخ تفوقها- صعوبة بالغة في تقبل أي فكر نقدي يفضح حقيقتها العنصرية.
في مقال نشره موقع “الجزيرة الإنجليزية”، يقول المؤرخ والناقد الأدبي الأميركي الإيراني حميد دباشي إن من بين الأشياء التي يقوم بها المستعمرون والمستوطنون هو التصرف كما لو أنهم السكان الأصليون للبلاد التي احتلوها بعنف، ووصف كل من يأتي من بعدهم بأنهم مهاجرون، وهو “شكل غريب” من التأريخ يراد به إقناع أنفسهم والعالم بأن لديهم حقا في الأرض التي سرقوها.
يشعر هؤلاء المستعمرون المستوطنون -الذين يدركون تماما أنهم ليسوا أصحاب الأرض- بأنهم تحت التهديد ويبدؤون بالتصرف بشكل غريب في كل مرة يرتفع فيها “الوعي النقدي” حول الهوية وماهية الأرض التي ادعوا أنها ملكهم لوحدهم، وهذا بالضبط ما يحدث اليوم في المستعمرة الاستيطانية التي نسميها الولايات المتحدة الأميركية، على حد تعبير الكاتب.
وحسب دباشي، كثيرا ما يصاب المستوطنون العنصريون في هذه البلاد بنوبات غضب تجاه مصطلح “النظرية العرقية النقدية” الذي ينزع الشرعية عن الأساطير التي روجوها حول حقهم في الأرض التي أقيمت عليها الولايات المتحدة، فالنظرية العرقية النقدية في نظرهم كلمة نابية وإساءة مباشرة لمشاعرهم وفخرهم بـ”وطنهم”.
لكن ما هي “النظرية العرقية النقدية”؟
يوضح الكاتب أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب روج لفكرة أن هذه النظرية شيء سيئ، وأنها تعني أن البيض في الولايات المتحدة في خطر إذا لم ينتخبه الأميركيون لولاية ثانية أو يختاروا رئيسا جمهوريا آخر “يتمتع بالقدر ذاته من الرجعية والعنصرية”.
وحسب الكاتب، فإن النظرية العرقية النقدية مدرسة فكرية ترى أن المؤسسات الكبرى في الولايات المتحدة عنصرية بطبعها ومبنية على ضمان استمرار تفوق العرق الأبيض.
وأشار إلى أن النظرية كانت ستظل مبحثا أكاديميا بعيدا عن اهتمامات الرأي العام، قبل أن يسلط ترامب الضوء على هذا النقاش خلال حملته الشعواء للفوز بولاية ثانية.
ويقول الكاتب “أصبحت النظرية العرقية النقدية موضوعا للنقاش على نطاق واسع في الولايات المتحدة بعد أن قرر ترامب الهجوم عليها لأنها فضحت عنصريته وعنصرية مؤيديه”.
من نظرية ما بعد الاستعمار إلى النظرية العرقية النقدية
في سبتمبر/أيلول 2020 بينما كان ترامب يتخلف عن جو بايدن في معظم استطلاعات الرأي أصدر مكتب الإدارة والميزانية توجيها مفاده أنه “تم توجيه جميع الوكالات للبدء في تقليص جميع العقود أو نفقات الوكالات الأخرى المتعلقة بأي بحوث أكاديمية على “النظرية العرقية النقدية”، أو “امتياز البيض”، أو أي بحث أو جهد دعائي آخر يروج لفكرة أن الولايات المتحدة بلد عنصري أو أن أي مجموعة إثنية أو أي عرق عنصري بطبعه”.
وهذا يعني -وفقا للكاتب- أنه إذا قلت الحقيقة وفضحت الجذور الهيكلية للعنصرية في الولايات المتحدة فستكون في ورطة وستلاحقك أجهزة الحكومة الفدرالية.
لكن استخدام أجهزة الدولة وسلطتها الهائلة لمحاصرة التفكير النقدي لم يبدأ مع ترامب، فقبل حوالي عقدين من الزمن استخدم “الصهاينة الأميركيون” التكتيك ذاته لمحاولة إسكات الأصوات التي تنتقد إسرائيل في الجامعات الأميركية، وكان هدفهم الرئيسي حينذاك المفكر الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد، بحسب تعبير الكاتب.
في أكتوبر/تشرين الأول 2003 -وكما أوضحت الصحفية ميشيل غولدبيرغ في موقع “صالون”- أقر مجلس النواب الأميركي “بالإجماع مشروع قانون يحث أقسام الدراسات الدولية بالجامعات الأميركية على إظهار المزيد من الدعم للسياسة الخارجية الأميركية وإلا فإنها قد لا تحصل على التمويل الفدرالي.
وجاءت الموافقة على القانون بعد جلسات الاستماع (في ذلك الصيف)، والتي استمع فيها أعضاء الكونغرس إلى شهادة حول التأثير السلبي الذي يلعبه إدوارد سعيد في أقسام دراسات الشرق الأوسط، والذي وصف بأنه من جيوب معاداة أميركا.
ويرى الكاتب أن القوى ذاتها التي حاولت حظر أفكار إدوارد سعيد وأي شكل آخر من أشكال التفكير النقدي الذي يكشف عن جذور المظالم العرقية في الولايات المتحدة والعالم حولت اهتمامها حاليا إلى النظرية العرقية النقدية، وهي فكرة موجودة منذ عقود تسعى إلى فضح وتفكيك القوى الحاضنة للعنصرية، وتكشف زيف اختزال الفكر العنصري في التصرفات الفردية المعزولة مثلما يروج له البعض لوصف ما يقوم به أمثال ترامب وبنيامين نتنياهو وإيمانويل ماكرون وبوريس جونسون.
الجذور العميقة للنظرية
تعد الفرضية القائلة إن الأنظمة القانونية والسياسية وحتى التعليمية هي من القوى الأيديولوجية التي تعمل على الحفاظ على البنية الطبقية للمجتمع أقدم بكثير من النظرية العرقية النقدية، حيث ظهرت مع المفكر الإيطالي الشهير أنطونيو غرامشي ونظريته عن “الهيمنة” التي تطرق إليها ماركس في وثيقته الأساسية عن الأيديولوجيا الألمانية، بحسب دباشي.
كما يمكننا العودة إلى الفيلسوف الألماني نيتشه، أو إلى حوار ثراسيماخوس مع سقراط في كتاب “الجمهورية” لأفلاطون، والذي شكك في حجج سقراط بشأن “العدالة” من خلال تعريفها بأنها إرادة الأقوياء، يضيف الكاتب.
لذلك -يتابع دباشي- فإن التفكير النقدي بشأن بنية المجتمعات وطابعها العنصري لم يظهر مع النظرية العرقية النقدية، لكن أهمية هذه النظرية في هذا المنعطف من التاريخ الأميركي هي أنها تشكل الإطار الفكري للحركة الاجتماعية الضخمة التي تعرف باسم “حياة السود مهمة”.
وهذه العلاقة الجدلية المثمرة بين النظرية الأكاديمية والانتفاضة الاجتماعية الشعبية هي بالتحديد ما يخيف المسيطرين على الولايات المتحدة، والذين يقاتلون بضراوة لحماية امتيازاتهم العرقية والطبقية والحفاظ عليها.
إنها حرب طبقية بحتة، فأولئك العنصريون “البيض” يرغبون في حماية الامتيازات التي يحصلون عليها بشكل تلقائي فقط لكونهم “بيضا”، ويعارضون بشكل قاطع أي وعي جمعي ببشاعة الإرهاب الذي يمارسونه بشكل منهجي على أولئك الذين يخضعون لسلطتهم، بحسب الكاتب.
في الواقع، لم تكن الطريقة التي برزت بها النظرية العرقية النقدية مختلفة عن الطرق التي ظهرت بها الحركات والنظريات الأكاديمية الأخرى، ويعد كتاب ريشار ديلغادو وجان ستيفانسيك “النظرية العرقية النقدية.. مقدمة” -الذي صدر عام 2001- من بين أبرز الأحداث التي أدت إلى الاحتفاء الواسع النطاق بهذه النظرية، إذ يوضح الكتاب الأصول والموضوعات الرئيسية والأصوات الرائدة في هذا المجال، ولاحقا قام المؤلفان بمراجعة وتحديث الكتاب ليشمل آخر المستجدات.
ويعتقد الكاتب أن النظرية العرقية النقدية -على غرار “لاهوت التحرير”، أو دراسات ما بعد الاستعمار- ليست نتاج الوقائع الاجتماعية ولكنها استجابة لها، لذلك فإن إلغاء التمويل أو فرض الرقابة أو شيطنة النظرية لن تمحو الظروف الاجتماعية التي أدت إلى بروزها في المقام الأول، بل بالعكس فإنها تثبت أهميتها وشرعيتها.
ويعد تصويت أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين مؤخرا من أجل عرقلة التشريعات التي تسعى إلى تأمين مشاركة أوسع للأميركيين غير البيض في عمليات الاقتراع دليلا إضافيا على صحة النظرية العرقية النقدية، وأن ما يحدث هو حرب طبقية يحشد فيها الأغنياء قواهم ضد الفقراء، وفق تعبير الكاتب.
استهداف المدارس
حاليا -بحسب الكاتب- يسعى الجمهوريين إلى وقف تمويل الدراسات والبحوث الأكاديمية حول العنصرية.
في الشهر الماضي قدم النائب دان بيشوب من ولاية كارولينا الشمالية ما سماه “قانون إيقاف النظرية العرقية النقدية ومكافحة ترويج هذا الفكر العنصري في المؤسسة العسكرية”، والذي سيحظر -على حد رأيه- “استخدام الأموال الفدرالية للترويج وتدريس النظرية العرقية النقدية ومنع أفراد الجيش من تناولها”.
وزعم بيشوب أن “النظرية العرقية النقدية أشبه بالسم للنفسية الأميركية.. هذه الأيديولوجية المدمرة ليس لها مكان في المؤسسات الأميركية، والقانون الذي أقترحه سيساعد في ضمان التزام حكومتنا بعدم إنفاق الموارد للمساهمة في الترويج لهذه النظرية”، وجادل بأن إدارة بايدن تحظى بدعم “اليسار الراديكالي” و”ملتزمة بإقحام هذه الدعاية الماركسية الجديدة في فصولنا الدراسية وأماكن عملنا وحتى مؤسستنا العسكرية”.
ويرى الكاتب أن الجمهوريين يستهدفون المدارس العامة على وجه الخصوص، لأنها مكان يختلط فيه معظم أفراد الطبقتين الدنيا والمتوسطة وأطفالهم مع أبناء المجتمعات الفقيرة والأقليات، ويمكن للفكر النقدي إذا انتشر في هذه الأوساط أن يرفع درجة الوعي العام لدى الطلبة وأوليائهم وأن يهدد مصالح أصحاب النفوذ.
ويختم بأن تشويه النظرية العرقية النقدية وفرض الرقابة عليها ومحاولة حظرها وحتى تجريمها لن يقتلع العنصرية المنهجية من جذورها التي تمتد عبر تاريخ الولايات المتحدة، وستتواصل الاحتجاجات والمسيرات في كل مكان، لأن صوت الحق يعلو دائما ليدافع عن أي نظرية صادقة، بحسب تعبيره.