بغداد- توفي أول أمس الأحد كبير المؤرخين العراقيين عماد عبد السلام رؤوف في مدينة أربيل، عن عمر ناهز 73 عاما قضاها في المعرفة والتنقيب والتأليف وإغناء المكتبة العراقية والعربية بأكثر من 135 كتابا في مختلف مصادر التاريخ والمعرفة.
ونعى وزير الثقافة والسياحة والآثار الدكتور حسن ناظم -في بيان- رحيل رؤوف، ووصفه بأنه أستاذ العديد من المؤرخين والباحثين، ورفد المكتبة بعشرات الكتب التاريخية المهمة التي تحمل الهوية الحضارية للعراق بعمقها الحضاري.
كما نعى الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق الباحث والمؤرخ والمفكر، وقال في بيان إنه” ترك إرثاً كبيراً من العلم والمعرفة”.
وكان رؤوف من أكثر الباحثين والمؤرخين الذين أكدوا حضورهم الميداني والإعلامي وسعة الاطلاع على عوالم التاريخ المختلفة، مما جعله ينقّب في أكثر من منطقة وحقبة تاريخية، وجعل دور النشر العربية المختلفة تتسابق من أجل طباعة مؤلفاته. وقد عرف عنه شغفه بتاريخ العراق عموما وبغداد وشوارعها وما حصل فيها.
المؤرخ الراحل أغنى المكتبة العراقية والعربية بأكثر من 135 كتابا في مختلف مصادر التاريخ والمعرفة
حياة ومثابرة
وتعود جذور الدكتور عماد عبد السلام رؤوف إلى مدينة الموصل شمال العراق، لكنه ولد في بغداد سنة 1948 وأكمل دراسته الابتدائية والإعدادية فيها، وتم قبوله بقسم التاريخ في كلية الآداب بجامعة بغداد، ونال شهادة الماجستير في التاريخ الحديث عام 1973 من جامعة القاهرة عن رسالته “ولاية الموصل في العهد الجليلي 1749-1834″، ثم نال شهادة الدكتوراه عام 1976 عن أطروحته “الحياة الاجتماعية في العراق في عهد المماليك 1750-1831” من الجامعة ذاتها.
ثم عاد إلى بغداد ليبدأ رحلته البحثية المثابرة في التاريخ والتراث، ويتدرّج في وظائف عديدة، إذ كان أستاذا في كلية التربية بجامعة بغداد، ورئيسا لمركز إحياء التراث العلمي العربي في جامعة بغداد، وأستاذا للتاريخ الحديث في كلية التربية بالجامعة ذاتها.
وإضافة إلى انهماك الراحل في تأليف الكتب والبحث والتنقيب التاريخي في أمّهات المصادر، كان أكاديميا ناجحا، وقد أشرف على العديد من طلبة الماجستير والدكتوراه في التاريخ الإسلامي، إضافة إلى أن هناك الكثير من رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه ورسائل الدبلوم العالمي التي كتبت عن أعماله في العديد من الجامعات العربية، مثلما ترجمت بعض مؤلفاته إلى عدد من اللغات وخاصة الإنجليزية والفرنسية والتركية والفارسية والكردية والإندونيسية والصينية.
لقد كان الراحل -إضافة إلى عمله في مجال التاريخ والبحث- يعمل في المجال الصحافي أو الإشراف أو الاستشارة في العديد من المجلات العلمية والأكاديمية، وقد نشر عشرات البحوث في العديد من المجلات العلمية والأكاديمية المحكمة في دول مختلفة بآسيا وأوروبا وأفريقيا ودول الخليج العربي.
التميمي: المؤرخ الراحل ينتقي بحثة بدقّة ويميل إلى الأصالة في البحث العلمي والتفرّد به
العلمية والمرجعية
وكان الراحل يؤكد على العلمية والعمل، لأن عملية التلاقح بين مجتمعات العالم واحدة، لذا عدّ أن العلة تكمن في تأخرنا في العمل: “هم عملوا فصنعوا حاضرهم ومستقبلهم، أفادوا من ماضيهم وتفاعلوا معه وصنعوا حاضرهم، وهم الآن يبنون لمستقبلهم”، لكنه حذر من الاندثار وأنه” في حال اندثارنا سيخسر العالم نفسه، لأنه سيفقد عنصراً يمكن أن يؤدي دورا في استمرار التاريخ”.
ويفسر أن الاندثار ليس القصد به الجانب الفيزيائي بل الجانب المعنوي من الوجود، “لأننا سنُطرد من دائرة الحياة ونعيش مستعبدين لأولئك الذين عملوا فاستعبدونا”.
وهو ما جعل الأستاذ في قسم التاريخ بكلية التربية في جامعة كربلاء البروفيسور عباس التميمي يعد الراحل “من القلائل من المؤرخين العراقيين والعرب الذين دأبوا على تتبع المعرفة في كل مكان من العراق والبلاد العربية”، بل ذهب بعيدا حين قال إنه “ينتقي بحثة بدقّة ويميل إلى الأصالة في البحث العلمي والتفرّد به، مما ميزه عن غيره من المفكّرين والباحثين”.
ويتحدّث التميمي عن رحلة مع الراحل في مرحلة البكالوريوس: “درّسني مادة العالم الثالث عندما كنت طالبًا في جامعة بغداد بكلية التربية، فكان نعم الأستاذ في معلوماته الثرية من حيث أسلوبه بالربط بين الحاضر والماضي”، متحدثا عما يميزه وابتعاده عن معترك السياسة في حينها.
وقال “كان أشبه بواحة صغيرة وسط بحر متلاطم من الطموحات الإدارية، ولذا كانت شخصيته تميل إلى النرجسية الهادئة التي لا تعرف الغضب أو الثورة، ولم نسمع عنه أنه تصادم أو تزاحم في منافسة الآخرين على مواد التدريس”، معتبرا أن الموت أصاب جسده، لكنه “لم يمت عطاءً، لما تركه من خزائن علمية تعد من المراجع المهمة في الفكر التاريخي العربي والإسلامي والإنساني”.
السبتي اعتبرت أن المؤرخ الراحل كان مرجعا لحالات الاختلاف، سواء في الكتب التي يحققها أو المخطوطات
نخلة عراقية
ويتسم إنجاز الراحل بغزارة الإنتاج وتنوعه بين العقود الحديثة للدولة العراقية وحتى الفعاليات والأحداث المختلفة. فمثلما له كتاب “الوقائع الحقيقية في الثورة العراقية لعلي البازركان 1991″، له أيضا “مطالع السعود بطيب أخبار الوزير داود باشا والي بغداد 2009″، مثلما تناول بالدراسة والتحقيق “تاريخ الأسر العلمية في بغداد للسيد محمد سعيد الراوي 2008″، وقد حقق أيضا ودرّس “بيوتات بغداد في القرن الثالث عشر للهجرة لعبد الرحمن حلمي العباسي السهروردي 1997″، وكان له كتاب أيضا صدر عام 2006 “المملكة العربية السعودية بين الحربين العالميتين، في ضوء تقارير القنصلية العراقية في جدة. عمان”، إضافة الى كتب عن محال وجوامع ومساجد وفعاليات بغداد.
وقد عدّت الباحثة في التاريخ الإسلامي البروفيسورة انتصار السبتي، موت الراحل “خسارة أخرى من ضمن الخسائر الذي مني بها العراق، سواء في زمن الحروب أو زمن الجائحة، بالتزامن مع الإرهاب بكل مسمياته”.
وقالت إن الراحل كان” أستاذا عالما، وكان المثل الأعلى في جامعة بغداد قاطبةً وكلية ابن رشد للتربية تحديداً، لما يتمتع به من خلق وصفات العالم، إضافة إلى نتاجه الثر في مجال اختصاصه في فلسفة علم التاريخ”، وتعود لتصف موته بأنه “سقوط نخلة عراقية أصيلة لها جذور بعمق تاريخ الوطن، أضف إلى ذلك كونه مفكّرا ومحققا”.
وعن مميزات الراحل، قالت إنه “أصبح مرجعا للكثير من حالات الاختلاف، سواء في الكتب التي يحققها أو المخطوطات التي تقع بين يديه، وهو لا شك علامة صدق وتحرّ ناجح ليس على مستوى العراق، بل على مستوى العالم، وهو ما جعل كتاباته تلاقي الكثير من الجدية والقبول، سواء في التأليف أو البحث لدى الآخرين”.
التلميذ وأستاذه
وكان الراحل غزير الإنتاج، ويقف أمام أية ملاحظة لتتحول إلى كتاب، وكانت كتبه التي تصدر من دورٍ عديدة لا تكتفي بطبعةٍ واحدة، بل تصل إلى عدّة طبعات.
ويصف المؤرخ والباحث صباح محسن كاظم رحيل رؤوف بأنه “مؤرّخ يترجل من منصته”، ويضيف أن الراحل “تحلّى بصفاتٍ علمية وأخلاقيةٍ نادرة، وكان يتمتع بقدرةٍ كبيرة على السرد التاريخي المفصل وبشكلٍ علمي ومحايدٍ، وهذا سرّ قوة تفكيره وخلود عطائه العلمي”.
وأكد كاظم أنه درس على يدي المؤرخ الراحل تاريخ الدولة العثمانية وتوسعاتها وعلاقتها بالإمبراطوريات الأخرى، “وكانت العلمية تتجلّى بقربه من طلابه وطالباته الذين يفضلونه على الجميع، لأنه غير متحزّب، ولا يمت بصلة لمشروع أدلجة العلم”، مؤكدا أنه يجمع الغزارة العلمية مع السيرة الأخلاقية.
وقد صنف كاظم المؤرخ الراحل ضمن مصاف الكثير من العلماء العراقيين الذين تركوا بصمة واضحة علمية صادقة، من أمثال” الدكاترة أحمد سوسة، وطه باقر، وفوزي رشيد، وبهنام أبو الصوف، وجواد علي، وكذلك عبد الله سلوم السامرائي”، معتبرا أن هؤلاء “عبّدوا الطرق للأجيال العلمية وبذلوا ما بوسعهم لخدمة تاريخ بلاد ما بين النهرين بعلمية فائقة نادرة”.