في العصور ما قبل الحديثة لم تكن هناك قوانين حماية الملكية الفكرية، وعلى نقيض المقتنيات المادية، كان الاعتراف بالملكية الفكرية والأدبية والنصوص غير الملموسة صعباً للغاية، وتوقع بعض الباحثين أن تكون الاقتباسات المنتحلة والأفكار المنسوبة لغير أصحابها شائعة في العصور الإسلامية الوسيطة؛ لكن التقاليد العلمية ونظم الاقتباس والإجازة والرواية والحقوق المعنوية للمؤلفين كانت معروفة أيضاً في عصور ما قبل الإنترنت والمطبعة.
وعرف العرب “النساخون” الذين ينسخون الكتب لمؤلفيها، لكن بعضهم كان ينتحلها أو يحرفها أو يسرقها حتى قيل “آفة العلم خيانة الوراقين”، ومع ذلك عرف العرب قديماً نسبة الأفكار لأصحابها، واشتهر عن حكيم شعراء الجاهلية زهير بن أبي سلمى إقراره بفضل الأقدمين في الشعر، وقال: “وما أرانا نقول إلا مُعارًا ومُعاداً من قولنا مكرورًا”
ورغم أن مصطلح “الملكية الفكرية” لم يكن معروفاً في الفقه والقانون الإسلامي في العصور ما قبل الحديثة؛ فإن نظم التأليف والتحقيق والمجتمعات العلمية العربية عرفت تقاليد صارمة لنبذ نحل المؤلفات ونسبتها لغير أصحابها، سواء من قبل الكتاب أو النسّاخ والوراقين.
ابن خلدون حذر من انتحال ما تقدم من التآليف وأكد ضرورة الإتيان بالجديد والحرص على الإبداع والابتكار
الانتحال والسرقة
عرف عن مفكري العصور الإسلامية الوسيطة تشنيعهم على المنتحلين، ومنهم ابن خلدون الذي كتب في المقدمة محذراً من “انتحال ما تقدم من التآليف بنسبه إلى نفسه، ببعض تلبيس من تبديل الألفاظ، وتقديم المتأخر وعكسه”. مؤكدًا “ضرورة الإتيان بالجديد والحرص على الإبداع والابتكار والحذر -كل الحذر- من التكرار وتسويد الأوراق بلا فائدة”.
واستخدمت ألفاظ التدوين والتأليف والتصنيف والإملاء والتحقيق والترجمة للإشارة إلى أنواع الكتابة المختلفة، ومع ذلك عرف الدارسون المسلمون مفاهيم وتقاليد الرواية والنقل والإخبار الصارمة التي تحفظ الحقوق لأصحابها، وتمنع انتحال الأفكار ونسبتها لغير مبدعيها، وكتب جلال الدين السيوطي رسالة أسماها “الفارق بين المصنف والسارق”.
ورغم شدة وقع مفهوم السرقة في المنظور الإسلامي، لم يتورع الحريري صاحب المقامات أن يصف الانتحال الفكري والأدبي بالسرقة، فقال في المقامة الشعرية إن “استراق الشّعر عند الشعراء أفظع من سرقة البيضاء والصفراء. وغيرتهم على بنات الأفكار، كغيرتهِم على البنات الأبكار”، واعتبر ابن القيم أن اللصوص والسراق منهم السراق بأيديهم والسراق بأقلامهم.
ومع ذلك، عرف التراث الإسلامي سرقات شعرية وحديثية، وسرقة مؤلفات واقتباسات وأفكار من دون عزوها لأصحابها، ودأب المحققون على كشف هذه السرقات الأدبية وفضح فاعليها وإسقاط الأهلية العلمية والتدريسية عنهم، رغم أن حدود التأليف والإبداع الأدبي لم تكن واضحة قانونيًّا كما هي الآن.
وفي كتابه الكبير “معجم الأدباء إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب” أورد ياقوت الحموي فصولاً كثيرة خصصها للسرقات، منها كتاب السرقات الكبير، وسرقات الشعراء وما تواردوا عليه.
وفي كتابه “انتقاض الاعتراض في الرد على العيني في شرح البخاري”، يعمد الحافظ ابن حجر لفضح السرقات الأدبية، ويستنكر فعل أحد المنتحلين قائلاً “فيا الله وعياذاً بالله، كيف يستجيز هذا أن يعمد إلى شيء أسهر غيره فيه ناظره وأتعب خاطره، فيتلقاه عنه، ولا ينتسبه إليه، بل ينسبه إلى نفسه؟!”
ويروي أبو بكر المالكي في كتابه “رياض النفوس” في طبقات علماء القيروان وإفريقية عن أسد بن الفرات القاضي الفقيه والأمير رفضه نسخ كتبه في مصر، لكنه قبل بعد شفاعة القاضي ورجائه فنسخت بإذنه، وبلغت المدونة الأسدية التي أملاها أسد بن الفرات على تلميذه عبد الرحمن بن القاسم ستين كتاباً.
ويروي الخطيب البغدادي في كتابه “الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع” نماذج من التحاكم والتقاضي على حقوق التأليف، فقد اختصم رجلين في الكوفة في نسبة كتاب إليهما وحكم القاضي بنسبة الكتاب لصاحبه استناداً لخط الكتاب.
يروي الخطيب البغدادي في كتابه “الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع” نماذج من التقاضي على حقوق التأليف
حقوق النشر
وكانت بعض الكتب تحظى بأرباح طائلة نتيجة الطلب الكبير عليها، فكان توثيق حق النسخ واجباً على النساخ بخط يد صاحب الكتاب، وكان إرفاقه بالمخطوط المنسوخ شائعاً، وفي بعض الأحيان كانت بعض الكتب المنسوخة تباع بطريقة غير مشروعة من دون إذن أصحابها، فكان القضاة يتدخلون للحكم بين المتخاصمين فيها، ويحكم بالتعويض أو التعزير، أو يلجأ صاحب الكتاب للتشنيع والفضح لكشف المنتحلين أو النساخين السراق.
وعرف في التأليف الإسلامي في العصور الوسيطة نظام “إجازة النسخ”، الذي يمكن مقارنته بحقوق النشر والطباعة الحديثة؛ إذ يشترط وجود إجازة بخط الناسخ لنسخ الكتاب يدويًّا قبل ظهور المطبعة الحديثة، ويظهر في مخطوط كتاب الرسالة للشافعي إجازة من الربيع بن سليمان تلميذ الشافعي لنسخ الكتاب بخط يده والتاريخ.
سلسلة الإسناد
واعتبرت سلاسل الإسناد مظهراً قديماً وبديلاً عن حقوق التأليف والملكية الفكرية الحديثة لتوثيق النصوص والنسبة لمؤلفيها الأصليين، وبسبب تطور علوم الحديث والجرح والتعديل عرف العرب أهمية نظم الإسناد والعناية بها، وقال عبد الله بن المبارك في القرن الثاني الهجري “الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء”.
وعرفت الإجازات العلمية عند العلماء، وأجاز ابن حجر العسقلاني بتاريخ الرابع من جمادى الأولى 845هـ عندما بلغ 72 من عمره مجموعة من أخص تلاميذه وأولادهم بإجازة مفصلة ومطولة لرواية كتبه ومسموعاته ومؤلفاته، ذاكراً أعماله وشيوخه ورواته وأسانيده.