في كتابه “إلى أين يسير العالم؟” اعتبر الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران أن التقدم لا يعني نفع الإنسانية، مدللا باستغلال الدول الكبرى التقنية الحديثة لصالحها، وعدم قضاء الإنسان على الوحشية، وتنبأ في كتابه بأن تاريخ العالم لن يتوقف عن العنف والصدمات، معتبرا أننا لا نزال نعيش قيم العصر الحديدي.
ويعرف الفيلسوف الفرنسي -ذو الأصول اليهودية الإسبانية (السفارديم)- بمواقفه المؤيدة لحق الفلسطينيين في إقامة دولة خاصة بهم، وقد قاده مقال كتبه في صحيفة لوموند (Le Monde) ندد فيه بالسياسة الإسرائيلية إلى المحاكم الفرنسية عام 2004.
وفي أحدث أعماله “دروس قرن من الحياة” ينظر الفيلسوف الفرنسي إدغار موران -الذي يحتفل بعد نحو شهر بعيد ميلاده الـ100- إلى الوراء، إلى المراحل الرئيسية في حياته لتسليط الضوء على الأخطاء وصعوبة فهم الحاضر، والحاجة إلى النقد الذاتي من أجل العيش معا بنجاح.
نهر النسيان
وفي تقرير لصحيفة ليبراسيون (Libération) الفرنسية أعده الصحفي كانتين جيرار ينطلق الكاتب من تغريدة للفيلسوف في أوائل مايو/أيار يقول فيها “بالطبع، أفضل قضاء الصيف بدلا من عبور ليتي”، في إشارة إلى أحد أنهار العالم السفلي الخمسة في الأساطير اليونانية، وهو “نهر النسيان” الذي يعني المرحلة الأولى من العبور من الحياة إلى الموت.
وفي انتظار الثناء الكبير الذي سيقدم له عندما يبلغ 100 عام يوم 8 يوليو/تموز المقبل يعترف الفيلسوف بأنه يفكر في الموت، دون أن يخفي ذلك، فالموت -كما يقول- يرصده، ولكن ذلك ليس سببا للتوقف عن التفكير ومشاركة الأفكار، في إشارة إلى كتابه “دروس قرن من الحياة” الذي سيصدر هذا الأسبوع، وقد يكون كتابه الأخير.
ألف إدغار موران كتبا منها “وحدة الإنسان” و”الإنسان والموت” و”ثقافة أوروبا وبربريتها” و”عنف العالم”
كان بإمكان هذا الباحث -الذي ولد ودخان بارود الحرب العالمية الأولى لا يزال عالقا في الهواء- أن يكتب بدلا من هذا الكتاب مقالا حول ذاته، وكان يمكنه أن يقدم نصائح مفصلة من أعلى عرش شيخوخته لكل هؤلاء الشباب الصغار الذين لا يفهمون شيئا، ولكنه كان صادقا مع نفسه ومع أخلاقياته في فكر التعقيد (la complexité)، إذ يعرّف طريقته في التفكير بأنها “بنائية”، إذ يقول “هذا يعني أنني أتحدث عن تعاون العالم الخارجي مع عقلنا لبناء الواقع”.
لكل فرد هوية معقدة
ولذلك، لا يقدم جد الفرنسيين -كما يصفه كانتين جيرار- دروسا بالمعنى المدرسي، ولكنه يتتبع حياته ليسلط الضوء على أخطائه وصعوبة فهمه للحاضر والحاجة إلى النقد الذاتي من أجل النجاح في العيش المشترك.
ويقدم موران نفسه بالقول “أنا فرنسي من السفارديم، إيطالي وإسباني جزئيا، وأوروبي متوسطي إلى حد كبير، وأنا أوروبي ثقافيا، ومواطن عالمي، وابن للوطن الأم، وربما أنا كل هذا في نفس الوقت، إلا أن تسود في بعض الأحيان واحدة من هذه الهويات”.
وينبه الكاتب إلى أن كل هذا يذكر بمدى صعوبة تعريف الإنسان، إذ إن “لكل فرد هوية عائلته وهوية قريته أو مدينته أو ولايته أو قوميته، بل وقارته، علما أن لكل منها هوية معقدة، وبالتالي فإن لكل فرد هوية معقدة، مفردة وجمعا في نفس الوقت” كما يقول موران.
ولد إدغار موران أو إدغار ناحوم في باريس بعد أن جاء والداه اليهوديان (السفارديم) من سالونيك باليونان التي كانت تحت حكم الإمبراطورية العثمانية، وكانوا في المنزل يتحدثون الفرنسية والقشتالية القديمة ودجيديو (لغة السفارديم بإسبانيا)، ولم يكونوا متدينين مطلقا.
لم يكن إدغار موران مهتما بالسياسة لولا أن نبهته مظاهرة اليمين المتطرف المناهضة للبرلمان عام 1934، ليأتي بعدها الغزو الألماني الذي حول السلمية إلى المقاومة، حيث يقول “من أعظم دروس حياتي التوقف عن اعتقاد دوام الحاضر واستمرارية الصيرورة والقدرة على التنبؤ بالمستقبل”.
ويذكّر موران “بما لم يكن متوقعا من أزمة 1929 الكبرى التي دمرت العالم وشاركت في إنتاج النازية والحرب، ومن وصول هتلر إلى السلطة”، وكذلك الحرب الأهلية الإسبانية وحرب الجزائر، وتنصل خروتشوف من ستالين وسقوط الاتحاد السوفياتي ومركز التجارة العالمية وغير ذلك، ويشير إلى أن “التاريخ البشري يفهم لاحقا ولكنه دائما لا يمكن التنبؤ به مسبقا”.
تقبل تعقيداتك
وفي مواجهة غموض الوقت الحاضر من السهل ارتكاب أخطاء سياسية كما يقول موران، مشيرا إلى خطأين رئيسيين في حياته السياسية والفكرية، أولهما: عندما منعته نزعته السلمية قبل الحرب العالمية الثانية من رؤية الطبيعة الحقيقية للنازية، والآخر هو رحلته إلى “ستالينيا” على حد تعبيره، وإيمانه بالاتحاد السوفياتي والدكتاتور الذي نشأ منه في أوائل الخمسينيات، مما أدى إلى طرده من الحزب الشيوعي.
وبعد سرده أخطاءه التي قال إنه نادم عليها، وغير نادم لأنها أعطته تجربة يقول موران “لتجنب هذا، فالحل بسيط، وهو أن تقبل تعقيداتك”.
ويضيف “لا يمكن تصور الفعل بشكل صحيح إلا في سياقه، فالكلمة متعددة المعاني تأخذ معناها في الجملة فقط، والجملة تأخذ معناها فقط في النص”، موضحا أن “البشر ليسوا جيدين ولا سيئين، فهم معقدون ومتعددو الاستخدامات”.
بنى إدغار موران حياته منذ طفولته من خلال لقاءاته أثناء المقاومة، تلك الفترة المركزية التي تتكرر مرات عديدة في نصه، خاصة بعد وفاة والدته المبكرة، وقد تزوج 4 مرات، ولكنه يأسف لأنه لم يكن أبا صالحا أو أنه في بعض الأحيان “لم يستطع الهروب من نوبات الغضب”.
ويبدى موران أسفه لأننا نعيش في مجتمع يؤدي فيه التقدم التقني والاقتصادي إلى الانحدار السياسي والحضاري، حيث تم نسيان الإنسان والطبيعة لصالح الإحصائيات واستطلاعات الرأي، داعيا اليسار إلى الاستفادة من 4 مصادر “في آن واحد” وهي الاشتراكية والشيوعية والليبرالية والبيئة، دون إغفال أحدها.
ويخلص إلى أن التعايش عنصر أساسي في نوعية الحياة، وأن “الازدراء واللامبالاة وغطرسة الطبقة والعرق والتسلسل الهرمي هي آفات الحضارة التي تمنع من يعاني من الإذلال من الاعتراف بكامل صفته الإنسانية”، مختتما بأن الخطر في السنوات القليلة المقبلة هو انتشار الثورات والمظاهرات من قبل جزء من الناس يطالبون بالكرامة، بحسب تعبيره.
المصدر : ليبراسيون