قال الإمام القرافي المالكي (ت 684هـ/1285م) في ’الذخيرة’: “صنّف الطرطوشي (المالكي ت 520هـ/1126م).. في تحريم جبن الروم كتابا، وهو الذي عليه المحقِّقون؛ فلا ينبغي لمسلم أن يشتري من حانوت فيها شيء منه لأنه يُنجِّس الميزانَ والبائعَ والآنيةَ”.
ولن يكتمل فهمُ الدافعِ للجزم بتحريم هذا النوع من السلع إلا إذا استحضرنا أن هذا الموقف الشرعي -في مبتدئه ومنتهاه- الذي اتخذه هذا الإمام العظيم جاء في سياق عصره الذي خيمت عليه أجواء الحروب الصليبية الساخنة والباردة، وتداعيات صراعاتها المريرة التي دامت قرونا في مركز العالم الإسلامي، حيث عاش الطرطوشي نصف حياته بين الشام ومصر.
إن قصة تحريم “الجبن الرومي” هذه تعود جذورها إلى أيام الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/796م) الذي تردد في الإفتاء بحرمته؛ ففي ’البيان والتحصيل’ لابن رشد الجد المالكي (ت 520هـ/1126م) أن مالكاً سُئل “عن جبن الروم الذي يوجد في بيوتهم، [فـ]ـقال: ما أحب أن أحرِّم حلالا، وأما أن يكرهه رجل في خاصة نفسه فلا بأس بذلك، وأما أن أحرّمه على الناس فلا أدري”!!
ولئن كان منطق الحِلّ والحُرْمة يخضع لاعتبارات الدليل الشرعي؛ فإنه -من جهة التاريخ- يجب ألا تغيب عن الأذهان أجواءُ التدافع الحضاري بين الروم والمسلمين، وانعكاس ذلك تاريخيا في مواقف الفقهاء وترجيحاتهم بين الأقوال المتعددة في حكم الموقف والنازلة الواحدة، لاسيما إن كان دليلها ظنيا في ثبوته أو دلالته، وهو ما يفسّر -في رأينا- حسْمَ الطرطوشي وجزمَه بحرمة مسألة “الجبن الرومي” في مقابل عدم جزم مالك بشأنه، وإلا فإن “الجبن الرومي” لم تختلف طبيعته وأدلته في عهد الطرطوشي عن نظيرتها في أيام الإمام مالك؛ بل الذي اختلف -فيما يظهر- هو السياق ومقتضياته الحضارية.
وذلك هو العامل نفسه الذي يمكننا ملاحظته اليوم بسهولة في مسلك قادة الرأي الديني والسياسي والثقافي الذين يُشْهِرون سلاح المقاطعة التجارية والسياسية في وجه التطبيع التجاري والسياسي مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي بفلسطين، وكذا مع فرنسا في موقف رئيسها وحكومتها المدافع عن إساءة بعض وسائل إعلامها إلى جناب نبي الإسلام محمد ﷺ.
فإذا كان هناك من يحرص على التقاط صورة تبجيلية مع زعيم “حركة شاس” الدينية الإسرائيلية المعروف بتطرفه تجاه العرب والمسلمين، كما فعل مؤخرا السفير الإماراتي بتل أبيب في ظل توقيع عشرات الاتفاقيات الاقتصادية بين شركات ومؤسسات حكومية وخاصة إسرائيلية وإماراتية؛ فإن هذا المقال ينحاز لخيار مقاطعة التطبيع مع المحتلين من السياسة إلى الثقافة مرورا بالتجارة والاقتصاد والاستثمار، مُتّكِئاً في ذلك على نماذج تاريخية مثّلت تفعيلا لهذا السلاح الاحتجاجي الشعبي، الذي هو أضعف الإيمان اليوم في إسناد نضال الشعب الفلسطيني في قضيته الإنسانية والحقوقية العادلة.
فما بين القديم والجديد في شأن الحروب الاقتصادية؛ نجد بعض التقاطعات والمفارقات التي نحاول أن نبرزها في هذا المقال الذي نفتح فيه ملف ظاهرة المقاطعة الاقتصادية للخصوم ومناهضة التطبيع التجاري معهم عبر التاريخ، ذاكرين أبرز وقائع توظيفها أداة سلمية للتأثير السياسي على الأنظمة الحاكمة، وسلاحا فعّالا في كسب جولات المعارك والحروب بين الدول، ومكوِّناً بالغ الأهمية في إدارة العلاقات بين أمم الشرق والغرب، بل وحتى في الفضاء الحضاري الواحد؛ وراصدين دور فقهاء الإسلام ورجال الدين المسيحيين ومفكري السياسة في هذه المعارك الاقتصادية، التي تقوم عبرها دول وتسقط أنظمة وتُنصر قضايا وتُخذل أخرى.
وعيٌ مبكّر
يقول الفقيه الطرطوشي -في كتابه ’سراج الملوك’- مخاطبا وزير الفاطميين بمصر المأمون البطائحي (ت 519هـ/1125م): “أيها الملك من طال عدوانه زال سلطانه، واعلم أن المال قوة السلطان وعمارة المملكة، ولقاحُه الأمنُ ونتاجه العدل، وهو حُسن السلطان ومادة المُلك، والمال أقوى العُدَد على العدو، وهو ذخيرة الملك وحياة الأرض، فمن حقه أن يُؤخَذ من حقه ويوضع في حقه ويمنع من السرف، ولا يؤخذ من الرعية إلا ما فضل عن معاشها ومصالحها، ثم ينفق ذلك في الوجوه التي يعود نفعها عليها، فيا أيها الملك احرص كل الحرص على عمارة الأرضين؛ والسلام”.
ينبئنا الطرطوشي في هذه النصيحة عن فلسلفة المال ودوره -لدى منظري الفكر السياسي الإسلامي ومدوني الآداب السلطانية في حضارتنا- في إقامة الدول وعمران البلدان، كما يشير إلى خطورة استخدام سلاح المال كـ”أقوى العُدَد على العدو”!
وقبل ذلك بقرون؛ تكشف لنا المراسلات التي دارات بين الخليفة الراشد عمر الفاروق (ت 23هـ/645م) ووُلاته على الأمصار في أزمة مجاعة الرمادة سنة 18هـ/640م مدى وعي الخلفاء الراشدين وأعوانهم بقيمة الجغرافيا الاقتصادية لتنمية الدول، وأهمية خطوط المواصلات البرية والبحرية في رفاه الناس وازدهار التجارة، وخطورة إهمال الاهتمام بذلك على مصائر الأمم.
فالإمام الطبري (ت 310هـ/922م) يروي -في تاريخه- أنه حين كتب عمر “إلى أمراء الأمصار [قائلا]: أغيثوا أهل المدينة ومَنْ حولها، فإنه قد بلغ جهدهم”؛ كان من الردود التي جاءته رسالةُ واليه على مصر عمرو بن العاص (ت 43هـ/664م)، وقد ضمنها رؤيته الاقتصادية وبعضا من تاريخ بحار المنطقة، وهو التاجر المكي القرشي الذي خبر الأسواق وارتاد الشام واليمن -قبل الإسلام- في رحلات الصيف والشتاء التجارية.
ووفقا للطبري؛ فقد قال عَمْرو في “جواب كتاب عُمَر في الاستغاثة: إن البحر الشامي (= الأبيض المتوسط) حُفِر لمبعث (= أيام مبعث) رسول الله ﷺ حفيرا، فصَبَّ في بحر العرب (= البحر الأحمر) فسدَّه الروم والقبط؛ فإن أحببت أن يُقوَّم سعر الطعام بالمدينة كسعره بمصر، حَفرتُ له نهرا وبنيت له قناطير؛ فكتب إليه عمر: أن افعل وعجِّل ذلك”!
ولم يكن أهل مصر -وأغلبيتُهم لم تُسْلم بعدُ- ليكتفوا بالتفرج على ذلك؛ فحاولوا إقناع عمرو بالعدول عن مشروعه مستخدمين لغة اقتصادية سياسية ذكية، فقالوا له: “خراجُك زاجٍ (= منتظِم أمره)، وأميرُك راضٍ، وإن تمّ هذا [الحفر] انكسر (= نقَص) الخراج، فكتب إلى عمر بذلك وذكر أن فيه انكسار خراج مصر وخرابها، فكتب إليه عمر: اعمل فيه وعجِّل..، فعالجه عمرو وهو بالقلزم (= البحر الأحمر)، فكان سعر المدينة كسعر مصر، ولم يزد ذلك مصرَ إلا رخاء، ولم يَرَ أهلُ المدينة بعد الرمادة [مجاعة] مثلها، حتى حُبس عنهم البحر مع مقتل عثمان.. فذلّوا وتقاصروا وخشعوا”! فجواب عَمْرو وإصرار عُمَر واعتراض أهل مصر على فتح منافذ بحرية جديدة في بلادهم؛ يبين لنا جانبا من إدراك أطراف الصراعات المبكر لقيمة الملاحة البحرية ورفدها للأنشطة التجارية.
ركيزة عمرانية
ومن أهم الوقائع التاريخية ذات الدلالة العميقة على اعتناء الخلفاء المسلمين بتوظيف عناصر الجغرافيا الاقتصادية قصة اختيار الخليفة العباسي المنصور (ت 158هـ/776م) لموقع عاصمة العباسيين بغداد؛ فقد قرر -بعد مشاورات مع خبراء الطوبوغرافيا في دولته- أن يقيمها على ضفة نهر صغير يُسمّى “الصَّرَاة” ليصلها بنهر الفرات.
وقد شرح له أحد هؤلاء الخبراء -وفق رؤية فنية جمعت أبعاد الجغرافيا الاقتصادية والسياسية- مميزاتِ الموقع المقترح، التي كان أهمها عدم إمكانية خضوع العاصمة لحصار اقتصادي، لارتباطها بأهم طرق تجارة العالم شرقا وغربا من خلال أنهارها المحيطة بها الضامنة لحركة التجارة وانسيابيتها؛ فقال هذا الخبير -طبقا للطبري- مخاطبا المنصور: إنه في هذا الموضع سوف “تجيئك الميرة في السفن من المغرب في الفرات، وتجيئك طرائف (= تُحَف) مصر والشام، وتجيئك الميرة في السفن من الصين والهند والبصرة وواسط في دجلة، وتجيئك الميرة من أرمينية وما اتصل بها.. حتى تصل إلى [نهر] الزّاب، وتجيئك الميرة من الروم وآمد (= اليوم مدينة ديار بكر التركية) والجزيرة [الفراتية] والموصل في دجلة”.
وكما كان توفُّر المال رافدا لقيام الدول وسببا من أسباب دوامها وتمددها؛ فإن نقصه كان أيضا عاملا حاسما في زوال أخرى، ووسيلة للإطاحة بنظم والتغلب على مدن منذ غابر الزمان، وإخضاع حكومات لرغبات من يمتلك أوراق الضغط الاقتصادي طوال القرون.
فقد أخبرنا الفيلسوف المؤرخ مِسْكوَيْه (ت 421هـ/1031م) -في ’تجارب الأمم‘- أثناء رصده للحيل التي كان يقوم بها الإسكندر المقدوني (ت 323 ق.م) في غزواته التوسعية؛ أنه “نزل على مدينة حصينة، فتحصن منه أهلها وعَرَف خبرَها، فأعلِم أنّ فيها من الميرة والعيون المنفجرة كفايتهم، فدسّ تجّارا متنكِّرين وأمرهم بدخول المدينة، وأمدّهم بمال على سبيل التجارة وتقدم إليهم ببيع ما معهم وابتياع ما أمكنهم من الميرة والمغالاة بها. ففعل التجار ذلك، ورحل الإسكندر عنهم، فلم يزل التجار يشترون الميرة إلى أن حصل في أيديهم أكثرُهـ[ـا]، فلما علم الإسكندر ذلك كتب إليهم أن أحرقوا الميرة التي في أيديكم واهربوا، ففعلوا ذلك، وزحف الإسكندر إليها فحاصرهم أياما يسيرة، فأعطوه الطاعة وملك المدينة”.
ومن قصص تلويح الحكّام بالمقاطعة الاقتصادية ومنع تأشيرات الزيارة ما ورد في القرآن الكريم بشأن علاقة نبي الله يوسف عليه السلام بإخوته، حين منَّ الله عليه بالتمكين في مصر وأراد تحقيق رؤياه بلمّ شمل عائلته مستعينا على ذلك بظروف المجاعة التي ضربت حينها بلدهم فلسطين؛ فقد شرط على إخوانه حين وفدوا عليه إحضار أخيهم لأبيهم وشقيقه هو، وإلا فليصبروا على قطعه ميرتهم من دولته وهم في أعوام جدب؛ يقول تعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ، فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُون}.
فالطبري يفسّر الآيات قائلا: “{فإن لم تأتوني به}: بأخيكم من أبيكم، {فلا كيل لكم عندي} يقول: فليس لكم عندي طعام أكيله (= أبيعه) لكم، {ولا تقربون}، يقول: ولا تقربوا بلادي”! ولم يكن تلويح يوسف بالمقاطعة الاقتصادية لإخوته إلا شوقا إلى أبويه وأخيه بعد ابتلاءات السجن. لكن نبيا آخر -جاء بعده بقرون كثيرة- اختُبِر هو وعشيرته الأقربين من أعدائه بالمقاطعة الاجتماعية والحصار الاقتصادي فثبت حتى مكنه الله تعالى، ولم يكن ذلك النبي سوى سيدنا محمد ﷺ في حصار قريش لهم في “شِعْب (= وادٍ صغير بين جبلين) أبي طالب” بمكة المكرمة.
ثبات ووفاء
فحين بعث الله نبيه محمدا ﷺ بالهدى والحكمة؛ أعرض عن دعوته قادة قريش بل وحاولوا صده عنها بكل السبل، فبدؤوا معه ومع أصحابه بالترغيب والمغريات وعَرْض مقاليد السيادة وكنوز الأموال عليه. ولما لم يُجْدِ ذلك في نيل مطالبهم منه، حاولوا بالترهيب وفرض الحصار الاجتماعي والمقاطعة الاقتصادية، وكان قادة قريش بتجاربهم التجارية والاقتصادية الطويلة على وعي بمدى خطورة سلاح المقاطعة الاقتصادية في مجتمع تجاري ذلّل وهاد صحراء العرب وجبال جزيرتهم بالقوافل صيفا وشتاء جنوبا وشمالا.
لكن عزيمة الرسول ﷺ كانت أقوى من مراوغات قريش، وقد اختصر ثباته ومضاءه في أمر الدعوة وتحدي المقاطعة بقوله لعمه أبي طالب (ت 3ق.هـ/619م) في لحظة اشتداد الحصار: “يا عمّ! لو وُضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركتُ الأمرَ حتى يُظهره الله أو أهلك في طلبه”؛ وفقا لرواية ابن إسحق (ت 151هـ/769م) في ’السيرة’.
وفي صمود مثالي يجدر بالمسلمين اليوم أن يستحضروه فيستلهموه ويلتزموه في نصرة نبي الإسلام وهو يُستهدَف بالإساءات المتتالية من خصومه؛ يخبرنا ابن إسحق بما نال النبيَّ ﷺ وأصحابَه وقومَه الأقربين وبعضهم مشركون “من البلاء والجهد” أثناء الحصار الشديد، الذي أمهلت قريش فيه أبا طالب قبل بدء تنفيذه وفاوضوه مرارا ليسلم إليهم ابن أخيه. وقد آثر أبو طالب حماية ابن أخيه تطبيقا لأعراف الحمية العربية؛ فدعاه وخاطبه بكلمته التي ظلت ترِنّ في سمع الزمان فحفظتها أذن التاريخ الواعية: “يا ابن أخي!.. امضِ على أمرك وافعل ما أحببت، فو الله لا نسْلمك بشيء أبداً”!!
لم يكن أمام قريش إذن -لصيانة هيبة وعيدها- إلا أن تفرض حصارها الاقتصادي والاجتماعي الشامل الذي وثقته في ميثاق معلَّق بأشرف البقاع، و”اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم على بني هاشم وبني المطلب ألا يناكحوهم ولا يَنكحوا إليهم، ولا يبايعونهم ولا يبتاعون منهم، فكتبوا صحيفة في ذلك… وعلقوها بالكعبة، ثم عَدَوْا (= اعتدوْا) على من أسلَم [من الناس] فأوثقوهم وآذوهم، واشتد البلاء عليهم وعظمت الفتنة فيهم وزلزلوا زلزالاً شديداً”.
لم تكتف قريش بتوثيق المقاطعة وإضفاء القدسية عليها بتعليقها في جوف الكعبة؛ بل عمقوا الحصار بطرق أخرى أشد ركزت على الترصد لأي بضاعة قد تتسرب إلى داخل شِعْب المحاصَرين، أو أن ينفذ محاصَر إلى سوق فـ”آذوا النبي ﷺ وأصحابه أذى شديداً وضربوهم في كل طريق، وحصروهم في شِعبهم وقطعوا عنهم المادة من الأسواق، فلم يدعوا أحدا من الناس يُدخِل عليهم طعاماً ولا شيئاً مما يرفق بهم، وكانوا يخرجون من الشِّعب إلى الموسم (= مواسم الحج والتجارة)، وكانت قريش تبادرهم إلى الأسواق فيشترونها ويُغلونها عليهم”؛ وفقا لابن إسحاق.
وقد حاول النبلاء من رجال قريش -خلال سنوات الحصار الثلاث- إنهاءه بمبادرات جماعية وفردية، فكانوا يسرِّبون حُمولات الطعام بطرق مختلفة إلى داخل الشِّعب، حتى نجحوا في فكِّ المقاطعة الاقتصادية عن النبي ﷺ وصحبه وعشيرته. وبعد بضع سنوات؛ وجد المسلمون -بعد أن توطنوا في دار هجرتهم المدينة المنورة- أنفسَهم في مواجهة التهديد بالمقاطعة الاقتصادية مجددا، ولكن هذه المرة من جماعة “المنافقين” الذين يخبرنا القرآن الكريم بأنهم رفعوا شعار: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} من حوله، إلا أن ترسّخ دعائم الإسلام في موطنه الجديد سرعان ما وضع تلك التهديدات في مهب الريح.
تأديب وتعويض
فتحت قريش -بحصارها الاقتصادي للمسلمين ومناصريهم من ذويهم المشركين- على نفسها أبوابا من الأرق الاقتصادي والقلق التجاري وهي سيدة الأنشطة التجارية في جزيرة العرب، فقد اتخذ النبي ﷺ حين أقام دولته في المدينة المنورة المقاطعة الاقتصادية سلاحا يؤدب به قريش كي تخضع وتكفّ عن معاداة الإسلام وصدّ الناس عن الدخول فيه أفواجا. وكذلك لتعويض المهاجرين الذين أخذت قريش أموالهم حين أرغمتهم على الخروج من وطنهم مكة.
فعندما وصل النبي ﷺ إلى المدينة مهاجرا؛ كان استهداف اقتصاد قريش من أولى الخطوات التي اتخذها ضمن أدوات متعددة لإدارة الصراع معها، ففي ’المغازي’ للواقدي (ت 207هـ/827م) أن “أول لواء عقده رسول الله ﷺ [كان] لحمزة بن عبد المطلب (ت 3هـ/625م).. في شهر رمضان (سنة 1هـ/623م)..، [فخرج] يعترض لعِير (= قافلة تجارية) قريش”. وكذلك كان هدف النبي ﷺ من أغلب السرايا العديدة التي أعقبت سرية حمزة هو أن “يعترض [المسلمون] لعيرات قريش حين بدت إلى الشام”.
وما قام به النبي ﷺ من تضييق اقتصادي على قريش هو ما فهم ا الغرضَ السياسيَّ منه الصحابيُّ الجليل ثمامة بن أُثال الحنفي (ت 11هـ/632م) في قصة إسلامه المشهورة بعد أسْره لدى المسلمين؛ فثـُمامة لما أسلم قال للنبي ﷺ كما في ‘صحيح البخاري‘: “إن خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي [أسيرا] وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ (= دخلت في الإسلام)؟! قَالَ: لا، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلا، وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ (= منطقة الرياض وجوارها بالسعودية) حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ ﷺ”!
كما تفيد قصة ثمامة بن أُثال أن قريشا أدّبها ضغط الاستهداف التجاري المتواصل، وأن سلاح التضييق الاقتصادي يخافه الأعداء خوفهم من سلاح القوة الباطشة؛ ففي ’فتح الباري’ للإمام ابن حجر (ت 852هـ/1448م) أن ثمامة “خرج معتمرا حتى إذا كان ببطن مكة لبَّى فكان أولَ مَنْ دخل مكة يلبي، فأخذته قريش فقالوا لقد اجترأتَ علينا وأرادوا قتله، فقال قائل منهم: دعوه! فإنكم تحتاجون إلى الطعام من [بلاد قومه] اليمامة، فتركوه”.
وينبئنا ابن حجر -في تفاصيل قصة ثمامة وحصاره الاقتصادي المضروب على قريش- أن المقاطعة الاقتصادية نفذت بالفعل، وأن قريشا وجدت المخرج من هذا الحصار عند النبي ﷺ المبعوث رحمة للعالمين، والذي سبق لها أن حاصرته وأخرجته من حرم الله وموطنه أرض أجداده. يقول ابن حجر إن قريشا لما ضغطت على ثمامة ليرجع عن الإسلام قال لهم: “والله لا أرجع إلى دينكم، ولا أرفق بكم فأترك الميرة تأتيكم من اليمامة..، ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا، فكتبوا إلى النبي ﷺ: إنك تأمر بصِلة الرحِم [فأغثنا]! فكتب إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين الحَمل إليهم”، فرفع عنهم ثمامة الحصار!
توظيف خاطئ
لم يكن الانحراف الذي اجترحته فرقة الخوارج -في وقت مبكر من تاريخ الإسلام- مقتصرا على بعده السياسي والقتالي فقط؛ فالخوارج بِرُؤاهم الشمولية لم يغب عنهم خطر توظيف المال في معاركهم الدامية، ولعل نجدة بن عامر الحنفي (ت نحو 72هـ/689م) أبرز من وظف المال من الخوارج توظيفا تراوح بين الصواب والخطأ.
فقد فارق نجدةُ زميلَه في المذهب نافعَ بن الأزرق الحنفي (ت 64هـ/682م) “لإحداثه في مذهبه… وسار إلى اليمامة ودعا [أميرَ الخوارج] أبا طالوت (البكري ت بعد 66هـ/684م) إلى [البيعة لـ]ـنفسه، فمضى إلى الخَضارِم (= وادٍ باليمامة) فنهبها وكانت لبني حنيفة..، [ووجد] فيها من الرقيق ما عدتهم وعدة أبنائهم ونسائهم أربعة آلاف، فغنم ذلك وقسمه بين أصحابه، وذلك سنة خمس وستين (65هـ/683م) فكثــُـر جمْعُه”؛ وفقا للمؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/ 1233م) في ’الكامل‘.
جعل نجدة الحنفي من جمع المال وتقسيمه بين الناس أداةً للدعاية السياسية الناجحة التي جمعت حوله أتباعا كثيرين، ثم استحلى هذه الوسيلة حسبما يخبرنا به ابن الأثير في رصده لمسيرة هذا الشاب الحنفي ورؤيته الاقتصادية؛ فيقول: “ثم إن عِيراً خرجت من البحرين (= الساحل الشرقي للجزيرة العربية) -وقيل من البصرة- تحمل مالا وغيره يُراد بها ابن الزبير (ت 73هـ/693م)، فاعترضها نجدة فأخذها وساقها حتى أتى بها أبا طالوت بالخضارم فقسمها بين أصحابه..، وقالوا: نجدة خير لنا من أبي طالوت، فخلعوا أبا طالوت وبايعوا نجدة وبايعه [أيضا] أبو طالوت، وذلك في سنة ست وستين (66هـ/684م)، ونجدة يومئذ ابن ثلاثين سنة”!!
ولما رأى نجدة ما يفعله المال من تمكين سياسي لأصحابه وقويت شوكته وحجَّ ولَّى بعض رجاله على مناطق واسعة من جزيرة العرب؛ ثم عاد إلى معقل إمارته في البحرين فـ”قطع الميرة عن أهل الحرمين منها (= البحرين) ومن اليمامة، فكتب إليه ابن عباس (ت 68هـ/688م): إن ثمامة بن أُثال لما أسلم قطع الميرة عن أهل مكة وهم مشركون، فكتب إليه رسول الله ﷺ: إن أهل مكة أهل الله فلا تمنعهم الميرة! فجعلها لهم، وإنك قطعت الميرة عنا ونحن مسلمون؛ فجعلها نجدة لهم”.
وبعد محاولة نجدة حصار أهل مكة اقتصاديا وغذائيا؛ أصبح الحصار الاقتصادي أمرا مألوفا في الصراعات السياسية في الفضاء الإسلامي، ومصاحبا للمعارك العسكرية في أغلب الدول الإسلامية التي قامت بعد انقضاء خلافة الراشدين، سواء في عمليات الفتوح أو في صراعات ملوك المسلمين؛ ففي زمن بني أمية “نصب الحجاج المنجنيق على مكة ليحصر أهلها حتى يخرجوا إلى الأمان والطاعة لعبد الملك (بن مروان ت 86هـ/706م)..، وحبس عنهم الميرة والماء، فكانوا يشربون من ماء زمزم..”؛ وفقا لابن كثير (ت 774هـ/1372م) في ’البداية والنهاية’.
استخدام متعدد
وحين اندلعت الحرب الأهلية الدامية في دولة العباسيين بين الأخوين الغريمين الخليفة الأمين ابن الرشيد (ت 198هـ/808م) وأخيه ولي عهده المأمون (ت 218هـ/833م)؛ لم يغب سلاح المقاطعة الاقتصادية والحصار التجاري عن تلك المعارك التي حُسمت نتيجتها لصالح المأمون، فقد ذكر الطبري -في ’تاريخه’- أن الأمين حين اقتنع بفشل سياسته القاضية باستدراج المأمون بالقدوم من معقله في خراسان إلى بغداد لتسهل له السيطرة عليه؛ أمر سنة 194هـ/811م بأن “يُمنع التجار من حمل شيء إلى خراسان من الميرة..، ثم عزم على محاربته”.
ومنذ سيطرة الفاطميين -وهم شيعة إمامية إسماعيلية- على مصر سنة 358هـ/969م؛ احتدم الصراع بين القاهرة وبغداد على الحرمين الشريفين، اللذين تعد السيادة عليهما العنوانَ الأكبر للشرعية الدينية لـ”خلافة” كل منهما في أعين الجماهير. وكان من تجليات ذلك الصراع ما أخبرنا به الإمام ابن الجوزي (ت 597هـ/1200م) -في ’المنتظم’- من توظيف للحرب الاقتصادية في معركته؛ فقال إنه في موسم حج سنة 365هـ/976م “حجَّ بالناس علويٌّ من جهة [الخليفة الفاطمي] العزيز (ت 386هـ/996م) صاحب مصر، وأقيمت الدعوة له بمكة والمدينة..، بعد أن حوصر أهل مكة فمُنعوا الميرة وقاسَوْا شدة شديدة”.
وفي الغرب الإسلامي؛ لم يفوِّت قادة المرابطين استخدام هذا السلاح في مواجهة غرمائهم الموَّحِّدين، فنجحوا بواسطته في تعويق مشروعهم مؤقتا وجنّبوا دولتهم السقوط نحو ثلاثين سنة؛ فقد أرسل إليهم أميرُ المرابطين علي بن يوسف بن تاشفين (ت 537هـ/1142م) “جيشا قويا فحصروهم في الجبل (= تين مَلَّلَ: بلدة جبلية حصينة بالمغرب كانت معقلا لتنظيمهم)، وضيقوا عليهم ومنعوا عنهم الميرة، فقلَّت عند أصحاب المهدي الأقوات، حتى صار الخبز معدوما عندهم..، فاجتمع أعيان أهل تين مَلَّلَ وأرادوا إصلاح الحال مع أمير المسلمين”؛ وفقا لابن الأثير في ’الكامل’.
لم تكن المقاطعة الاقتصادية والحصار التجاري ثقافة شرقية إسلامية خالصة؛ فهي في الغرب الأوروبي أشد وأشهر وأنكى لاعتماد حياتهم على البحار والموانئ، كما أن الرغبة في الثراء وحب المغامرة التي طغت على الأوروبيين في عصورهم الوسطى جعلت الاقتصاد من أقوى الدوافع المحركة لأساطيلهم سِلْماً وحرباً، وخاصة تلك التي اتجهت شرقا وجنوبا نحو سواحل المسلمين.
ويذكر مؤرخ الحضارات الأميركي وِيلْ ديورانت (ت 1402هـ/1981م) -في ’قصة الحضارة’- دوافع الحروب الصليبية؛ فيقول إن ثالث أسبابها المباشرة “هو رغبة المدن الإيطالية -بيزا وجنوى والبندقية وأمالفي- في توسيع ميدان سلطانها التجاري الآخذ في الازدياد. ذلك أنه لما استولى النورمان على صقلية من المسلمين (1060-1091م)، وانتزعت الجيوش المسيحية منهم جزءاً كبيراً من إسبانيا (1085م وما بعدها)؛ أصبح البحر المتوسط الغربي حراً للتجارة المسيحية”.
وكان انعكاس الحروب الصليبية على أوروبا قويا من ناحية الثراء الاقتصادي، وخصوصا الدول/المدن الإيطالية التجارية السابقة الذكر التي قويت وأثْرَت لأنها كانت “هي الثغور التي تخرج منها غلات إيطاليا والبلاد الواقعة وراء [جبال] الألب، وأخذت هذه المدن تعمل للقضاء على تفوق المسلمين في الجزء الشرقي من البحر المتوسط، وتفْتح أسواق الشرق الأدنى لبضائع غربي أوروبا، ولسنا نعلم إلى أي حد كان هؤلاء التجار الإيطاليون قريبين من مسامع البابا”!
دوافع متناقضة
لكل تلك العوامل؛ كان البعد التجاري والدافع الاقتصادي في كل مراحل الحروب الصليبية حاضرا بقوة، وكان من مكوِّني جيوش الصليبيين جماعات “التجار الذين يبحثون عن أسواق لبضائعهم”، كما اشترطت البندقية الإيطالية على قادة تلك الحروب أن تختص “بنصف الغنائم الحربية” مقابل “أن تمدهم بخمسين سفينة حربية”! هذا رغم “أن البنادقة لم يكن في عزمهم أن يهاجموا مصر؛ فقد كانوا يكسبون منها الملايين في كل عام بما يصدرونه إليها من الخشب والحديد والسلاح، ولم يكونوا يريدون أن يخاطروا بضياع هذه التجارة بالاشتراك في الحرب، أو باقتسامها مع بيزا وجنوى”.
ويحدثنا الرحالة ابن جبير الأندلسي (ت 614هـ/1217م) -في مواضع من رحلته- عن اتساع النشاط التجاري بين المسلمين والصليبيين بعد استيطانهم سواحل الشام، وكيف أن هذا النشاط لم يكن في زمنه متأثرا بأجواء الحروب المتكررة في جغرافيته، في صورة أخرى من صور التعايش الديني حتى ولو كان بين الأعداء بإملاء من عامل توازن الردع. فابن جبير يذكر مثلا أن “تجار النصارى.. لا يُمنَع أحدٌ منهم ولا يُعترَض، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم (= مستعمراتهم)..، وتجار النصارى أيضا يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم، والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم والناس في عافية..، ولا تُعتَرَض الرعايا ولا التجار، فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سِلْمًا أو حرباً”!!
ورغم ذلك؛ لم تكن تجارة الصليبيين مع المسلمين بتلك المرونة لأن رجال الدين المسيحيين كانوا لها بالمرصاد، إذ كثيرا ما أصدر بابوات الفاتيكان قرارات “الحرمان الكنسي من الغفران” بحق التجار المسيحيين الذين يتاجرون مع المسلمين. ويبدو أن ذلك ازدادت وتيرته عقب زمن الرحالة ابن جبير مع توالي فشل الحملات الصليبية الموجهة إلى الشام ومصر منذ الربع الثاني من القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، وصولا إلى توقفها نهائيا -مع نهاية ذيْنك القرنين- نحو خمسة قرون.
فالمستشرق الفرنسي روبار برنشفيك (ت 1411هـ/1990م) يؤكد -في كتابه ’تاريخ إفريقية/تونس في العهد الحفصي‘- أن التجار المسيحيين كثيرا ما خضعوا “لقرارات الحظر الصادرة عن الكنيسة بخصوص إمداد المسلمين بأية مادة من شأنها أن تساعد أولئك ‘الكفار‘ في حربهم ضد أنصار المسيح، ولقد طبقت بعض الدول النصرانية مرارا وتكرارا قرارات الحظر المذكورة الصادرة عن الكنيسة، ولدينا عدة أمثلة من ذلك المنع الصادر عن بعض الحكومات الأوروبية ضد رعاياها الذين يتاجرون مع إفريقية”.
ويفيدنا برنشفيك “أن قرار المنع الأكثر تفصيلا هو ذلك الصادر عن ملك أرغون خايمي الأول (ت 675هـ/1276م) ضد إفريقية؛ ففي 12 أغسطس/آب 1274م (= 673هـ) ذَكَّر الملكُ القطلونيين -الذين رخّص لهم في التحول إلى تونس- بالقرار الذي اتخذه في برشلونة.. بخصوص منع إمداد المسلمين بالمواد التالية: الأسلحة والحديد والخشب والقمح والشعير والذرة البيضاء والدخن والفول ودقيق كل الحبوب وحبال القنب، أو غير ذلك من المواد الصالحة لصنع حبال السفن والرصاص”.
وتذكرنا قائمة هذه السلع الممنوعة بما تُصْدره اليوم القوى الدولية العظمى من قوائم حظر تجاري تستهدف إضعاف اقتصاد “الدول المارقة” لإخضاعها لسياسات ومواقف معينة!! ويضيف روبار أن ملكا أرغونياً آخر هو خايمي الثاني (ت 727هـ/1327م) أصدر قرارا مماثلا سنة 720هـ/1320م يمنع التجارة مع أهالي تلمسان غربي الجزائر.
خطة شاملة
والحقيقة أن خطة الصليبيين الأكثر تفصيلا والأشد شراسة في مقاطعة المسلمين وحصارهم اقتصاديا هي تلك التي سطّرها أحد أبناء جزيرة البندقية اسمه مارينو سانوتو المعروف بلقب تورسيللو (ت 744هـ/1343م) في دراسة بعنوان: ’كتاب الأسرار للصليبيين الحقيقيين لمساعدتهم على استرداد الأرض المقدسة‘، وقدّمها سنة 721هـ/1321م إلى البابا يوحنا الثالث والعشرين (ت 734هـ/1334م).
ويكشف لنا مؤرخ الحروب الصليبية سهيل زكّار (ت 1441هـ/2020م) -في ’الموسوعة الشاملة عن الحروب الصليبية’- حيثيات تأليف كتاب تورسيللو والظروف التي أنتجته؛ فيقول “إن تحرير عكا سنة 690هـ/1291م كان حدثا هائلا شمل الغرب الأوروبي كله، وهنا شرع رجال الكنسية ورجال الحكم والسياسة وأرباب الفكر والقلم، كل بدوره يعمل في سبيلِ مشروعِ حملةٍ صليبيةٍ، مع اقتناعهم أن طريق فلسطين يمرّ عبر مصر التي فشلت كل المحاولات السابقة لاحتلاها”.
ومن هنا جاءت أهمية كتاب تورسيللو الذي يبدو أنه -بعد قرابة خمسة قرون من صدوره- ألهم الإمبراطورَ الفرنسي نابليون بونابرت (ت 1236هـ/1821م) القيامَ بأول حملة استعمارية صليبية -بعد استعادة عكّا- على المشرق الإسلامي، انطلاقا من غزوه مصر وسواحل الشام لإخضاعها وضمها سنة 1212هـ/1797م!!
ويخبرنا مؤلف هذا الكتاب الخطير وواضع خطة المقاطعة الاقتصادية الشاملة للمسلمين عن حيثيات تأليف كتابه وكيفية دخوله على البابا الذي قدم “له نسختين حول استرداد الأرض المقدسة والحفاظ على المؤمنين نسخة مغلفة باللون الأحمر، والثانية بصليب”، كما قدم له أربعة مصورات جغرافية توضيحية؛ المصور الأول: عن البحر الأبيض المتوسط، والثاني: عن الأرض والبحر، والثالث عن الأرض المقدسة، والرابع: عن أرض مصر.
أما الدافع الحقيقي لتأليف الكتاب فيقول عنه تورسيللو: “ولست متقدما إلا بمحض إرادتي لأريكم كيفية إذلال أعداء الإيمان المسيحي، وهزيمة سلطان القاهرة (= الناصر محمد بن قلاوون ت 741ه/1341م) و[حليفه وصهره سلطان مغول القوقاز] أوزبك خان (ت 742هـ/1341م)، الذي اشتهر عند جنوب الأرض أنه لا يُهزَم”! كل ذلك “بنفقة زهيدة، لا بل بدون نفقة”!! وبعد تقديم التقرير والخطة يخبر تورسيللو سيده البابا بأن له التقدير النهائي في “إبادة الأمة الإسلامية التي نشرها محمد (ﷺ)، ولتعلم قداستكم أن هذا ممكن تحقيقه حسبما سيتضح.. لكم من خلال هذا الكتاب”.
لم يكن كتاب هذا الصليبي الإيطالي -الذي عاش زمنا داخل الكنيسة- مجرد تنظير بارد، بل كان خلاصة تجارب ثرية وصعبة في أحايين كثيرة؛ وقد لخّصها هو بقوله: “في سبيل مشروعي هذا كنت قد عبَرت البحر خمس مرات؛ حيث ذهبت مرة إلى قبرص، وثانية إلى أرمينيا، وثالثة إلى الإسكندرية، كما ذهبت إلى رودس، وكنت -قبل أن أقوم بهذا كله- قد أقمت مدة طويلة في كل من الإسكندرية وعكا، وذلك دون خرق للحظر الذي فرضته الكنيسة..، ولهذا أعدّ نفسي مطّلعا بشكل جيد على كل أحوالها”.
اهتمام بالغ
ولشدة اهتمام البابا بهذا الكتاب وما تضمنه من تفاصيل شكَّل لجنة من “الإخوة الرهبان” لدراسته وتقديم تقرير عنه، وقد رأت اللجنة “اعتمادا على محتوى الكتاب أن من الممكن تجهيز كل ما هو لازم بطريقة لائقة من أجل ركوب البحر والعبور إلى مصر، وذلك ما سيضعف موارد السلطان وستنشلّ قواه ومقوماته، كما أن المواد (= السلع) التي يستوردها المسيحيون عادة من البلدان الخاضعة للسلطان من الممكن الحصول عليها من بلدان أخرى، وعندنا أن هذا سهل تحقيقه”!
أما مضمون كتاب تورسيللو فهو خطة حصار اقتصادي صليبي محكم للعالم الإسلامي مقتضاها أنه يجب “الوقوف في وجه الذين يسعون نحو بلاد السلطان لابتياع الأصناف النادرة وبقية أنواع البضائع، ومن ثم نقلها عبر البحر الأبيض المتوسط”. ويقترح المؤلف عدة بدائل للأوربيين بأن يذهبوا إلى الهند عبر الأراضي التي يسيطر عليها التتار عن طريق بغداد، مع لغة ترويجية ماكرة للبضائع المحمولة عبر طرق بلاد التتار.
يتألف الكتاب من عدة أقسام وفصول يغني الوقوف على أفكارها الكبرى عن بقية الكتاب، وكلها تأليب للبابوات والقادة الصليبيين على محاصرة المسلمين اقتصاديا وخصوصا أهل مصر؛ فالقسم الأول من الكتاب مثلا “يشتمل على توضيح طُرُق إضعاف قدرة السلطان وتبيان قدرة “المؤمنين بالمسيح” على استيراد المنتجات اللازمة دون الاضطرار للذهاب إلى “الأراضي الخاضعة للسلطان”!!
وبينما يتمحور القسم الثالث من الكتاب حول “البضائع التي يحتاجها المسلمون والتي لا بد لهم من الحصول عليها من الخارج”؛ يركز القسم الرابع على “وجوب إيجاد إجراء للمقاطعة أنفع من الإجراء الحالي.. لتدمير المسلمين، وكيفية العمل لمنع أية أعمال تجارية على الإطلاق مع البلاد الخاضعة للسلطان [قلاوون] عبر البحر المتوسط”!!
وفي الفصول العديدة التي توزعت عليها أقسام الكتاب؛ يقدم تورسيللو البندقي قائمة بـ”المنتجات التي نحتاجها.. من بلاد السلطان ويمكن الحصول عليها من بلاد المسيحيين”، موضحا أن المسلمين يجنون من ذلك أموالا كثيرة “وإذا توقف المسيحيون عن ذلك فإن هذا يلحق بالسلطان والمسلمين ضررا كبيرا بالغا”.
ويتطرق “للأضرار التي سوف تلمّ بالسلطان وبالشعب الخاضع له في حال إيقاف تصدير الذهب والفضة والحديد وبقية أنواع المعادن وغير ذلك من المنتجات إليهم”، ثم يشرح “الخسائر الفادحة والنفقات الكبيرة التي ستتوجب على السلطان وستنزل به إذا أوقِف تصدير المواد الغذائية والمنتجات المتنوعة من بلاد المسيحيين إلى بلاده”.
حظر “مقدّس”
ولإقناع المسيحيين بوجوب المقاطعة الاقتصادية للمسلمين وسلاطينهم؛ يعتني تورسيللو بتفصيل “الأسباب المسوغة لمنع أي مسيحي من شراء أية بضائع مجلوبة من البلدان الخاضعة للسلطان مهما كانت الطرق التي جاءت بها”! ولم يكتف بانتهاج الأسلوب الإقناعي بل مزجه بالمنزع التخويفي حين جعل أحد فصول كتابه جوابا لسؤال: “لما ذا يتوجب على جميع المسيحيين مطاردة المخالفين لأوامر الكنيسة في هذا المجال في كل مكان، وليس فقط في البحر بل وفي البر”؟
وفي الأخير شرَح واضعُ خطة المقاطعة الاقتصادية الشاملة للعالم الإسلامي “العقوباتِ المتوجب إنزالها بالأمراء وبحكام المناطق وبالجماعات التي لا تلتزم بهذه الإجراءات فتستقبل تلك البضائع في مراسيها أو في أراضيها”، وانتقل من تقنين العقوبات إلى “مراقبة البحر وحراسته وكيفية تأهيل الجهاز الأمني الأول للمسيحيين -أي الجيش- للحرب، ومقدار التكاليف” المترتبة على ذلك.
ولفت تورسيللو انتباه مطالعي خطته إلى أن “الشخص الذي سوف تتولى كنيسة الرب المقدسة الأمر بتعيينه قائدا قد يتمكن من أن يوجب على المسلمين القاطنين في تلك المناطق الامتناعَ عن تصدير أو استيراد أية سلعة من الأراضي التابعة للسلطان” المسلم! فالمحاصرة الصليبية هنا لم تعد مقتصرة على منع أتباع الكنيسة من استيراد بضائع المسلمين، وإنما صارت تشمل منع المسلمين من استيراد بضائعهم “الحلال”!!
ولئن كانت هذه الخطة الصليبية قُدِّمتْ للبابا وتأمَّلها وأمر بدراسة إمكانية تنفيذها؛ فإن ثمة قرارات بـ”الحرمان الكنسي” من “الغفران المسيحي” صدرت من جهة البابوات أنفسهم، تلك القرارات التي تكاثرت عقب استعادة عكّا التي أظهرت استحالة نجاح الحملات الصليبية العسكرية، وفتحت الطريق لممارسة أسلحة المقاطعة الاقتصادية باعتبارها “أضعف الإيمان”، لاسيما مع ازدهار التبادل التجاري بين البلدان الإسلامية والدول/المدن التجارية الأوروبية مثل البندقية وجنوى.
وقد لخّص لنا الدكتور العراقي إيلاف عاصم مصطفى -في بحثه ’دوْرُ البابوية والقرصنة في شل حركة التجارة الشرقية في البحر الأبيض المتوسط 1292-1498م’ (= 691-803هـ)- أشهرَ القرارات البابوية المتعلقة بمقاطعة المسلمين تجاريا؛ وذلك بدءا من عهد “البابا نيقولا الرابع (1288-1292م) الذي عمل على قطع أي علاقة تجارية بين تجار مصر وتجار البحر الأبيض المتوسط، وبعدها جاء البابا بونيفاس الحادي عشر (1303-1306م) الذي عمل على إصدار قرارات تفرّق بين المنتوجات المصدرة إلى مصر، مثل المنسوجات مقابل الفلفل الذي يحتاجه الأوروبيون في فصول الشتاء القارس”.
ويذكر الدكتور إيلاف أن “البابا كلمنت الخامس (1305-1314م) أصدر قرارا بمنع إرسال كل السلع إلى مصر سواء كانت تجارية أو عسكرية، ومن يخالف ذلك يتعرض لأشد أنواع الحرمان الكنسي في ذلك العصر”، كما “أمر البابا يوحنا الحادي والعشرون (1316-1334م) ملكَ قبرص هيو الرابع (1301-1325م) عام 1323م بقطع كل الطرق التجارية في البحر المتوسط أمام أي سفينة تحاول الاتجار مع المصريين والدولة المملوكية، وذلك بإعطائهم حق القرصنة”.
ووفقا لما يستخلصه المستشرق برنشفيك؛ فإن الثابت الأهمَّ في قرارات “الحرمان البابوي” هو أن التجار والملوك لم يلتزموا بها في معظم الأحيان، إذ “كانت الدول النصرانية تتردد في مخالفة تلك القرارات، من ذلك مثلا أن جنوى حين أرادت 1452م (856هـ) توجيه بعض الأسلحة إلى تونس رأت من واجبها أن تسترخص البابا”، أي تطلب منه ترخيص ذلك.
قرارات مهدرة
ويفيدنا ديورانت بضخامة الأنشطة التجارية لمدينة جنوى الإيطالية وتنوّع علاقاتها الاقتصادية؛ فيقول إن “أسطول جنوى التجاري يتألف من مئتيْ سفينة عليها عشرون ألفا من البحارة”، وأنها كانت “تتَّجر بكامل حريتها مع بلاد المسلمين، كما تتَّجر معها البندقية وبيزا وإسبانيا..؛ وكانت كثير من هذه المدن الإيطالية تبيع الأسلحة للمسلمين في أيام الحروب الصليبية، وكان البابوات الأقوياء أمثال إنّوسنت الثالث (ت 613هـ/1216م) ينددون بالتجارة أياً كانت مع المسلمين”!!
ثم يوضح ديورانت -بأسلوب شاعري- مدى احترام التجار المسيحيين لتلك القرارات البابوات؛ فيعلق قائلا: “ولكن الذهب كان أقوى أثراً من الدِّين أو الدم المُراق، ولهذا ظلت «التجارة المحرَّمة» تجري في مجراها العادي”! ثم يختم بقوله: “إن أعظم البابوات شأناً وأقواهم سلطاناً لم يستطع أن يجعل صوته أعلى من رنين الذهب”!!
ولم يكن التلويح بالعقوبات الاقتصادية لحماية مصالح أوروبا المسيحية مقتصرا على البابوات؛ فها هو المفكر السياسي الفرنسي بيير ديبوا (ت بعد 721هـ/1321م) -وهو للمفارقة أحد المنظِّرين المبكرين لانفصال الدولة الفرنسية عن التبعية للكنيسة والبابوات- نجده يطالب “في رسالة عن استرداد الأرض المقدسة” باعتماد سلاح المقاطعة ضد الأعداء. ووفقا لديورانت؛ فإن ديبوا رأى أن “كل أوروبا يجب تتَّحد تحت لواء ملك فرنسا باعتباره إمبراطورا يتخذ عاصمته في القسطنطينية، وأن تكون هذه قلعة تناهض الإسلام..، وأن تُعلَن مقاطعة اقتصادية لكل أمة مسيحية تبدأ الحرب ضد أمة مسيحية أخرى”.
ولم يكن التسامح الذي اتبعه التجار المسيحيون بحثا عن الثراء والربح منسحبا على القادة العسكريين في معاركهم الرامية للاستيلاء على المدن الإسلامية واحتلالها؛ فمؤرخو يوميات الحروب الصليبية يسجلون بدقة وقائع اتخاذ هؤلاء القادة أداة الحصار الاقتصادي رديفا لنظيره العسكري في نكايتهم بالمسلمين. فالمؤرخ ابن الأثير يرصد في أحداث سنة 429هـ/1039م أن ملك الأبخاز في حصاره لأهل مدينة تفليس أقام “عليهم محاصرا ومضيقا، فنفدت الأقوات وانقطعت الميرة، فأنفذ أهلها إلى أذربيجان يستنفرون المسلمين ويسألونهم إعانتهم”.
وهو الأمر الذي اتبعه الإفرنج الصليبيون بعد ذلك في حالات كثيرة، منها أنهم عندما احتلوا أنطاكية حاصر ملكها الصليبي “حصن الأثارب” الذي هو اليوم بلدة “الأتارب” الواقعة غربي مدينة حلب السورية، فجمع سنة 504هـ/1110م “عساكرَه من الفرنج.. وسار نحو حصن الأثارب.. وحصره ومنع عنه الميرة، فضاق الأمر على مَنْ به من المسلمين” حتى استسلموا لعدوهم الصليبي، فـ”ملك الحصنَ قهرا وعنوة، وقتل من أهله ألفيْ رجل، وسبى وأسر الباقين”؛ حسب رواية لابن الأثير.
وكان الحصار الاقتصادي المرير الذي فرضه الصليبيون على المدن والثغور الإسلامية مدعاة أحينا لاتباع أهلها حيلا طريفة لكسره؛ ومن ذلك ما يذكره ابن شداد الموصلي (ت 632هـ/1234م) -في ’النوادر السلطانية’- ضمن أحداث سنة 585هـ/1189م، من أن “الإفرنج.. أداروا مراكبهم حول عكا حراسة لها من أن يدخلها مراكب المسلمين، وكانت قد اشتدت حاجة من فيها إلى الطعام والميرة فركب في بطسة (= سفينة) بيروت جماعة من المسلمين وتزيَّوْا بزِيّ الإفرنج حتى [إنهم] حلقوا لحاهم ووضعوا الخنازير على سطح البطسة بحيث تُرى من بُعد وعلّقوا الصلبان، وجاءوا قاصدين البلد.. حتى دخلت ميناء البلد..، وكان فرحاً عظيماً فإن الحاجة كانت قد أخذت من أهل البلد”.
وفي المقابل؛ تحدثنا كتب التاريخ عن عشرات الوقائع التي خضع فيها الصليبيون لحصار اقتصادي بحري أجبرهم أحيانا كثيرة على الانسحاب من أراضي المسلمين. ومن ذلك ما يذكره المؤرخ المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في ‘المواعظ والاعتبار‘- قائلا إنه في سنة 648هـ/1250م “قدِم الأسطول الإسلامي من جهة المنصورة [شمالي مصر]، وأحاط بالفرنج [بدمياط] فظفر باثنين وخمسين مركبا للفرنج، وقتل وأسر منهم نحو ألف رجل، فانقطعت الميرة عن الفرنج واشتد عندهم الغلاء وصاروا محصورين..، فوهنت قوة الفرنج وتزايد الغلاء عندهم، وشرعوا في طلب الهدنة من المسلمين على أن يسلموا دمياط”.
مبادئ ومصالح
ومن صور المقاطعة الاقتصادية للخصوم العميقة الدلالة في تراثنا ما رواه المؤرخ ابن العديم (ت 660هـ/1262م) -في ’بغية الطلب في تاريخ حلب’- بشأن سبب اتخاذ الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان لعملة الدنانير الإسلامية سنة 75هـ/695م؛ طبقا لما أرَّخه ابن الجوزي في ‘المنتظم‘. وهو ما كان له أثر إستراتيجي عميق الإسهام في رسم مستقبل الحضارة الإسلامية وامتلاكها ميزة السيادة النقدية في الاقتصاد العالمي طوال ثمانية قرون، على نحو ما نراه اليوم من سيادة للدولار الأميركي.
فوفقا لابن العديم؛ فإنه قبل عهد عبد الملك “كانت الدنانير تأتي من بلد الروم (= تركيا اليوم) ويُطلَق (= يُباع) لهم القراطيس (= ورق الكتابة)، وكان يُكتَب في رؤوس الطوامير (= الصُّحُف): {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} إلى آخر الآية، فلما نظر ملك الروم إلى الكتاب قال: ما هذا؟ فقُرئ (عليه وقيل) له: شتموا إلهك الذي تعبد، يعنون عيسى (ﷺ)؛ فغضب وكتب إلى عبد الملك يقول: والله لئن كتبتَ بعدُ هذا في الطوامير لأنقشنَّ في الدنانير شتْمَ نبيك! فاغتمَّ عبدُ الملك فدخل عليه خالد بن يزيد بن معاوية (ت 85هـ/705م) -وكان داهيا- فأخبره، فقال له خالد: لا تغتم! اجعل عندك دارا للضرب (= سكّ العملة) واضرب فيها وامنعه القراطيس، فإنه سيحتاج إليها فيأخذها على ما تشاء”!!
وفي رواية الواقدي للقصة بيانٌ أوضح للبعد العقَدي الثاوي خلف ذلك القرار السياسي الاقتصادي الذي اتخذه ملك الروم؛ فقد قال إنه “كانت الأقباطُ تذكر المسيحَ في رؤوس الطوامير وتنسبه إلى الربوبية تعالى الله علوًّا كبيرا، وتجعل الصليب مكان بسم الله الرحمن الرحيم، فلذلك كرِه ملكُ الروم ما كرِه واشتدَّ عليه تغيير عبد الملك ما غيَّره”! ففحوى هذه القصة تلخص لنا تاريخ الصراع بين المسلمين والمسيحيين -وخاصة في شقه الاقتصادي والتجاري- وعلاقة ذلك بالمقدسات؛ فملك الروم غضب وأوعد بالمقاطعة الاقتصادية لِمَا ظنَّه شتما لعيسى ﷺ الذي يتخذه “إلهاً” من دون الله تعالى!
ومن المنطلق نفسه صدرت عدة فتاوى من علماء المسلمين وقادتهم في ضوابط التعامل مع المسيحيين المحاربين، كما أن ثمة دافعا آخر يتعلق بنظرة بعض المسلمين إلى طهارة المنتَج المسيحي عموما ومدى موافقته للشروط الإسلامية، وجواز تمكين المسيحيين من العملات التي نُقِش فيها اسم الله تعالى؛ ففي كتاب ‘تهذيب المدونة‘ للفقيه المالكي القيرواني أبي سعيد الأزدي المعروف بالبرادعي (ت بعد 430ﻫ/1040م) أن المُسْلم “لا يشتري من الحربيين بالدنانير والدراهم التي فيها اسم الله تعالى لنجاستهم، كانوا أهلَ حرب أو عهد”!
ومن الفتاوى الإسلامية القديمة التي اشتبك فيها مبدأ توخي الطهارة دينياً وضغط اللحظة الراهنة سياسياً؛ فتوى الفقيه المالكي أبي بكر الطرطوشي -الذي عاصر الحروب الصليبية- القاضية صراحةً بالمنع الباتِّ لاستهلاك “الجبن الرومي”، متجاوزا بذلك تردد إمامه مالك بشأن حكم هذا المُنْتَج الغذائي؛ كما رأينا في النص الذي صدّرنا به هذا المقال نقلا عن القرافي المالكي.
ومن تلك الفتاوى الطريفة التي اشتبك فيها لدى الفقهاء مبدآ القداسة والطهارة مع مراعاة المصالح المادية الواقعية؛ فتوى الفقيه المالكي ابن مرزوق الحفيد التلمساني (ت 842هـ/1438م) في حكم النسخ على الورق المستورَد من بلاد الروم، وقد رجَّح هو جواز ذلك في رسالة سماها ’تقرير الدليل الواضح المعلوم على جواز النسخ في كاغد الروم’، ولكن عارضه فقهاء آخرون لأسباب فقهية واقتصادية.
سياقات مؤثّرة
وإذا كنا ركزنا في استعراض فتاوى المقاطعة الاقتصادية للعدو على المذهب المالكي فمردّ ذلك أن فقهاءه كانوا -بحكم جغرافية بلدانهم- على خطوط تماس دائم مع الصليبيين وعموم المسيحيين الغربيين في الأندلس وشمال أفريقيا، وحتى في ثغور الشام ومصر كالإسكندرية. وقد كان منطلقهم الأساسي لأغلب فتاوى المقاطعة الاقتصادية هو قول الإمام مالك الوارد في ’المدونة’ للإمام سحنون (ت 240هـ/855م): “أمّا كلُّ ما هو قوة على أهل الإسلام مما يتقوَّوْن به في حروبهم من كُراع (= الخيل والإبل) أو سلاح أو خُرْثِيٍّ (= أثاث البيوت)، أو شيئا مما يُعْلَم أنه قوة في الحرب من نحاس أو غيره؛ فإنهم لا يباعون ذلك”.
وعلى خُطى فتاوى الإمام مالك تلك سار أتباعه في الغرب الإسلامي مثل الفقيه عبد الحميد الصائغ القيرواني (ت 486هـ/1093م) الذي عايش -آخرَ عمره- بداياتِ هجمات الصليبيين على أطراف العالم الإسلامي، حيث استولوا على نصف رقعة الأندلس بسقوط طليطلة سنة 478هـ/1086م، وانتزعوا السيادة على كامل جزيرة صقلية سنة 484هـ/1091م، ثم رأى تجمُّعَ غيوم هذه الهجمات في الأفق وهي توشك أن تتجه -بُعيد وفاته- إلى سواحل الشام غزوا صليبيا استيطانيا لا يرحم.
وبالنظر إلى تلك السياقات الظرفية الخطيرة؛ يمكن فهم موقف الإمام الصائغ القيرواني حين أفتى بعدم جواز الاتجار بالطعام وغيره مع الأعداء، إذا كان الاتجار “يقويهم على محاربة المسلمين”، ويجنون منه “أموالا عظيمة”، وذلك لأن الأعداء كانوا “في أيامه يتقوَّوْن بما يصل إليهم من الأموال على أمور تعود بضرر المسلمين”؛ وفقا للإمام الونشريسي (ت 914هـ/1509م) في ’المعيار المُعْرِب’.
وفي ظل تمدد الممالك المسيحية في الجغرافيا الإسلامية بالأندلس؛ وسّع ابن رشد الجد فتواه بمنع الاتجار مع الأوروبيين مقترحا آليات عملية لمراقبة تنفيذ فتواه تلك؛ فرأى أنه “واجب على والي المسلمين أن يمنع [رعيته] من الدخول إلى أرض الحرب للتجارة، ويضع المراصد في الطرق والمسالح (= دوريات الحراسة) لذلك حتى لا يجد أحدٌ السبيلَ إلى ذلك، لاسيما إن خشي أن يُحمَل إليهم ما لا يَحِلُّ بيعُه منهم مما هو قوةٌ على أهل الإسلام لاستعانتهم به في حروبهم”.
ويندرج في ضغوط واقع التّماس والمواجهات بين المسلمين والمسيحيين في الغرب الإسلامي إبرامُ سلطان المغرب أبي الحسن المريني (ت 753هـ/1352م) في “سنة 739/1339م معاهدة سياسية تجارية في تلمسان مع وفد مملكة ميورقة (= إحدى الجزر الأربع الواقعة قبالة الساحل الشرقي للأندلس)، وقد سمح هذا الاتفاق لرعايا ميورقة بالتجارة في المغرب، ولكن منع عليهم أن يصدّروا منه القمح والسلاح والخيل والجلود المُمَلَّحة والمدبوغة”؛ وفقا للمؤرخ المغربي محمد المنوني (ت 1420هـ/1999م) في كتابه ‘ورقات من حضارة المرينيين‘.
ومن ذلك أيضا ما كان يتخذه سلاطين مصر من قرارات تفرض حظرا تجاريا على تصدير سلع معينة إلى الممالك الأوروبية؛ فالمؤرخ المقريزي يفيدنا -في كتابه ‘السلوك‘- بأنه في سنة 838هـ/1435م “مُنع التجارُ بالإسكندرية من بيع البهار (= التوابل) على الفرنج فأضرهم ذلك”. وفي سنة 1120هـ/1709م صدر في القاهرة أمرٌ بـ”ألا يُباع شيء من قسم الحيوانات والقهوة إلى جنس الإفرنج”! طبقا للمؤرخ المصري الجبرتي (ت 1237هـ/1825م) في ‘عجائب الآثار‘.
المصدر : الجزيرة