“الرأي العام” مفهوم واسع متعذّر الضبط متعدّد التعريفات لتوزعه بين حقول شتى منها السياسي والاجتماعي والنفسي والإعلامي، وبالنسبة للحضارة الإسلامية فإن الرأي العام كان تاريخيا من أقوى مراكز التأثير المجتمعية بوصفه وعاء الانتماء وعنوان الهُوُّيّة، لا سيما أن الخبرة الإسلامية قامت على تمكين المجتمع من التشكل الذاتي لمكوناته والتدبير الطوعي لشؤونه ليكون هو عماد حيوية الأمة.
ولذا كان العامّة دائما مادّة النزاع بين علماء الدين وحملة الفكر ورجال السياسة، ونقطة الصراع بين المتشابكين من زعامات الفِرَق والطُّرُق والمذاهب الفقهية والفكرية؛ فكلّ فرقة تخاطب العامّة بمذهبها وتعرض عليها أفكارها وتسوّق لها مواقفها. وانطلاقا من تلك الحقيقة؛ نجد الدراسات الإنسانية اليوم كلها تتجه إلى العامّة دراسة وتحليلا واستقراء لآرائهم وسلوكهم، لتحديد كيفية استقطابهم أو التعامل معهم بما يتوافق مع رغبات الفاعلين المجتمعيين.
وبالعودة إلى التراث الإسلامي الديني والاجتماعي والسياسي؛ سنجد أن “العامة” لم يكونوا مهمشين في الشأن العام المعرفي والواقعي، بل كانوا هم مادته المركزية لدى فئتيْ العلماء والأمراء، باعتبارهم محل الرضاء والمقبولية والسيادة والخشية في الآن نفسه. فضلا عما كان لهم من “رقابة شعبية” كثيرا ما دفعتهم للتحرك من موقع الرأي إلى موقف الفعل، وما كان يؤدي إليه ذلك من ثورات وهبات اجتماعية ملأت التاريخ السياسي والاجتماعي في الحضارة الإسلامية.
لكن ذلك الاهتمام القديم بالرأي العام لا نكاد اليوم نجد له صدى في مباحث العلوم السياسية العربية والإسلامية؛ وهي ثغرة معرفية عظيمة جاء هذا المقال ليلفت الأنظار إليها، ويحاول أن يسدّ جانبا منها عبر رصد موجز لتاريخ الرأي العام الإسلامي، كاشفا عن مكانته نظريا لدى نُخَب المسلمين قديما، ومستعرضا ملامح من أدواره المجتمعية وتجلياته الواقعية ومحركات فعله المتعددة وآليات نشاطه المؤثرة.
سبق مصطلحي
اهتم علماء الإسلام -على اختلاف مشاربهم- بمناقشة ظواهر الرأي العام الشعبي ودوره في حركة الحياة العامة للمجتمعات، باعتباره مركز الثقل في الحضارة الإسلامية؛ فهو وعاء الانتماء ومستقرّ الهُوّية ومدار الفعل.
ولذا قد نندهش لاستخدامهم قديما مصطلحات من قبيل “رأي العامة” الذي يكافئ دلاليا مصطلحَ “الرأي العام” بمفهومه الأكثر شيوعا اليوم باعتباره الموقف الذي تتبناه أكثرية مجتمع ما في قضية معينة وتعمل لأجله؛ فنجد عند أبي حيّان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) -في ‘المقابسات‘- قوله: “إنا لا نظن أن كل من كان في زمان الفلاسفة بلغ غاية أفاضلهم..، بل كان في القوم من رأى «رأي العامة» وحَطّ إلى ما حطَّتْ إليه”.
بل إننا نطالع تعبير “الرأي العام” نفسه عند الشهرستانيّ (ت 548هـ/1153م) -في كتابه ‘المِلَل والنِّحَل‘- وإن كان بدلالة تختلف قليلا عن المفهوم الشائع اليوم لهذا التعبير، والذي نقصده هنا في هذا المقال؛ فهو ينقل عن إقليدس اليوناني (ت 265ق.م) قوله: “افْزَعْ إلى ما يشبه «الرأي العام» التدبيري العقلي واتَّهِم ما سواه”! وأيضا ربما عبّروا عن “الرأي العام” بمصطلح “الهيئة الاجتماعية”؛ كما سنرى لاحقا.
ومن هنا نجد العلماء يتطرقون لعلاقة عامة الناس بالمعارف والعلوم في مجالات عديدة؛ فنرى مثلا علماء اللغة يهتمون برصد وضبط الانحراف اللغوي عند “العامة” فيؤلفون فيه المصنفات، كما فعل الإمام الكسائي (ت 189هـ/805م) حين ألّف كتابه ‘ما تلحن فيه العامة‘، وكذلك وضع أبو بكر الزبيدي الأندلسي (ت 379هـ/990م) كتاب ‘لحن العوَامّ‘. كما نرى المؤرخين يهتمون برصد أنشطة الرأي العام في كل العصور.
وأما علماء الشرع؛ فقد حاول العلماء أن يجعلوا إيمان العامة قويا والتزامهم الديني عميقاً؛ فبحثوا دور العامة في صياغة “الرأي الشرعي” وخاصة في المجالين الرئيسيين: العَقَدي (أصول الدين) والتشريعي (أصول الفقه)؛ فبحثوا ما يلزم “العامِّيّ” (نسبة إلى العامة) في صحة الاعتقاد والاجتهاد، وحددوا منزلة موقفه فيهما والمساحة التي يعمل فيها ومدى حجية رأيه فيهما.
وبصفة عامة؛ يقدم لنا الإمام فخر الدين الرازيّ (ت 606هـ/1209م) خلاصة نقاشات العلماء بشأن موقع العامة في مراتب الناس على سلّم المعرفة، وما يجب على المنتسب إلى العامة طبقا لموقعه المعرفي؛ فيقول -في كتابه ‘المحصول‘- إن مراتب المشتغل بالعلم ثلاثة: “فإما أن يكون عاميا صرفا، أو عالما لم يبلغ درجة الاجتهاد، أو عالما بلغ درجة الاجتهاد”. ثم أوضح أن الشخص إذا كان عاميا فإن العلماء جَوّزوا له استفتاء العلماء، وإن كان عالما لم يبلغ درجة الاجتهاد فذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز له تقليد عالم غيره.
اختيار حرّ
ومع إلزام العلماءِ “العامةَ” باستفتائهم في الأحكام؛ فإن الإمام الغزالي (ت 505هـ/1111م) يلفت انتباه زملائه من العلماء إلى ضرورة النظر إلى فلسفة الدين ومقاصد الشريعة، فيدعوهم إلى إقناع العامة بذكر الدليل الشرعي لهم مقرونا بالآراء العقدية والفقهية حتى ترتاح نفوسهم، ويُقرر أنّ العامة وإن أُلجِموا عن تعاطي مسائل “علم الكلام” إلا أنّ الاعتقاد ينبغي أن يُبنى عن دليل تطمئن به قلوبهم.
يقول الغزالي في ‘إلجام العوام عن علم الكلام‘: “فإن قلتَ: العاميُّ إذا لم تسكن نفسه إلى الاعتقادات الدينية إلا بدليل؛ فهل يجوز أن يُذكَر له الدليل؟ فإن جوزتَ ذلك فقد رخصتَ له في التفكر والنظر، وأي فرق بينه [في هذا النظر] وبين غيره؟ وإن منعتَ فكيف تمنعه ولا يتم إيمانه إلا به؟ والجواب: أني أجوّز له أن يسمع الدليلَ على معرفة الخالقِ ووحدانيته، وعلى صدق الرسول ﷺ، وعلى [ثبوت] اليوم الآخر…”.
وقد انشغل الإمام الغزالي كثيرا بمسألة العامة وعلاقتهم بالعلوم والأصول العقدية؛ ففي كتابه ‘القِسْطَاس المستقيم‘؛ يحيل الغزاليُّ العامةَ إلى القرآن الحكيم وأدلته في “الأصول” (العقائد)، وأما في “الفروع” (العبادات والمعاملات ونحوهما) فيحيلهم إلى المتفق عليه بين العلماء. ويقول للعامّي مخاطباً: “لا تشغل قلبك بمواقع الخلاف ما لم تفرغ عن جميع المتفق عليه”. وينصحه إذا احتار في مسألة مختلف فيها بين الفقهاء فيقول: “اجتهد مع نفسك، وانظر: أيُّ الأئمة أفضلُ عندك، وصوابُه أغلب على قلبك” فاعمل به!
وإذا كانت العامة مطالبة بالرجوع إلى علماء عصرها لاستفتائهم فيما يعرض لها من مشكلات؛ فإن ذلك يثير سؤالا مهمًّا عن كيفية معرفة العامي بالأهلية العلمية للعالِم؛ وهو السؤال الذي طرحه الشهرستانيّ -في ‘المِلَل والنِّحَل‘- دون أن يحسم بشأنه، فقال: “ثمّ إنّ العامي بأيّ شيء يَعْرفُ أنَّ المجتهدَ قد وصل إلى حدّ الاجتهاد؟ وكذلك المجتهد نفسه متى يعرف أنه قد استكمل شرائط الاجتهاد؟ فيه نظرٌ”!
لكن الإمام السيوطي (ت 911هـ/1506م) يجيب على هذا السؤال؛ فينقل -في ‘الرد على من أخلد إلى الأرض‘- عن بعض العلماء أنه “يقلد العاميُّ من ظهر اسمه في البلد، وشاع اسمُه في ألسن الناس”، وعن آخرين: “بل يقول للعالِم أمجتهدٌ أنت [فـ]ـأقلّدك؟ فإن أجابه إلى ذلك قلّده”، ثمّ رجَّح هذا القولَ الأخير إذا كان العالِم عدلا موثوقا بدينه.
ومن اللافت حقا أن العلماء أثبتوا للعامة من المقلِّدين حقهم في اختيار فقهائهم الذين يثقون في فتاويهم، بل وجعلوا من طرق هذا الاختيار أن يختبروهم حتى يطمئنوا إلى أهليتهم العلمية. فهذا الإمام الجويني (ت 478هـ/1085م) يقرر -في كتابه ‘الغِياثي‘- أنه “يتعين على المستفتي (= العامي وشبيهه) ضربٌ من النظر في تعيين المفتي الذي يقلده ويعتمده، وليس له أن يراجع في مسائله كل مُتَلقِّب بالعلم”.
وهذا يفيد بأنّ العامي لا يخلو من نمط ما من الاجتهاد، وإلا كان كسولا في أسمى شيء في حياته وهو الدين وتعاليمه. ويتصل بذلك عدم حصرية ارتباط العامة بتقليد فقيه معيّن، إذ لهم -في أرجح الأقوال- حق استفتاء من يشاؤون من مختلف الفقهاء الموثوق بعلمهم، والدليل على ذلك “ما وقع عليه إجماع الصحابة من تسويغ استفتاء العامي لكل عالم في مسألة، وأنه لم يُنقَل عن أحد من السلف الحَجْرُ على العامة في ذلك”؛ طبقا للإمام أبي الحسن الآمِدي (ت 631هـ/1234م) في كتابه ‘الإحكام في أصول الأحكام‘.
مساءلة مكفولة
ولم يكتف الفقهاء بتقرير حق العامة في اختيار علمائها ومفتيها واختبارهم قبل هذا الاختيار، بل أثبتوا لها أيضا حق مساءلة الفقيه أو المفتي عن دليله الشرعي على ما يقدمه لها من آراء فقهية، حتى إن الإمام الباقلاني (ت 402هـ/1012م) يوجب “على المستفتي أن يمتحن مَنْ يريد تقليدَه”؛ وفقا لما نقله عنه الجويني في ‘الغِياثي‘.
ويقرر ذلك الإمام ابن حزم (ت 456هـ/1065م) أيضا ذلك -في ‘الإحكام في أصول الأحكام‘- قائلا: “ويلزم هذا [العاميَّ] إذا سأل الفقيهَ فأفتاه أن يقول له: مِن أين قلتَ هذا؟ فيتعلم من ذلك مقدارَ ما انتهت إليه طاقته وبلغه فهمه”. كما يؤكد هذا الرأيَ نفسَه الإمامُ الخطيبُ البغدادي (ت 463هـ/1072م) -في كتابه ‘الفقيه والمتفقه‘- بقوله: “وإذا أجابه الفقيه عن مسألةٍ جاز له أن يستفهمَه عن جوابه: أقاله عن أثَرٍ أو عن رأي؟”.
وهذا ملمحٌ مهم في ترشيد الرأي العام حين يتم تشكيله بالاختيار الطوعي ومن خلال آراء فقهية لعلماء ذوي مصداقية علمية وشعبية؛ لأنّه ينبني على ذلك مسألة وجوب إقناع العامّة -باعتبار ذلك من مسؤولية الفقيه- بسلامة الآراء قبل تقليدهم إياها، وإلا فسيختلّ هذا التقليد إذا برز من شكّك فيه وأطعمَ العامةَ شبهاتِه.
وبعيداً عن تفاصيل الخلاف بين العلماء في جواز تقليد العامة للعلماء في العقائد من عدمه؛ فإنّ مجرد حضور العامة في الدرس الفقهي والعقدي دليل على مكانة الرأي العام وموقعه في التراث الإسلامي، وبرهان على أن النظرة إلى العامة كانت إيجابية إلى الحد الذي جعل بعضهم يسوّون بين العامي والمجتهد في تحريم التقليد في العقائد! فالإمام الإسْنَوي (ت 772هـ/1370م) يرى -في ‘نهاية السُّول‘- أنه “يجوز للعامة الاستفتاء في الفروع..، واختلفوا في الأصول (= العقائد).. فالأكثرون على أنه لا يجوز لا للمجتهد ولا للعامي”!!
لا يقف التنظير لمكانة العامة في الفضاء العلمي عند مستوى تثبيت حقهم في اختيار مرجعياتهم العلمية ومساءلتهم إياها بشأن حجية آرائها في العقائديات والفقهيات؛ بل إننا نجد حضورا قويا لـ”رأي العامة” في مبحث الإجماع الفقهي عند علماء “أصول الفقه”، ومسألة ثبوت التواتر الخبري في “علوم الحديث” النبوي.
فقد ناقش علماء الإسلام ما إن كانت العامة جزءا من “الإجماع” الفقهي المعبِّر عن “عصمة الأمة”؛ وفي ذلك يقول الخطيب البغدادي -في ‘الفقيه والمتفقه‘ ملخصا النقاش في هذا الموضوع- إن “الإجماع على ضربين: أحدهما: إجماع الخاصة والعامة، مثل إجماعهم على القبلة أنها الكعبة، وعلى صوم رمضان..، والضرب الآخر: هو إجماع الخاصة دون العامة”.
مكوِّن أصيل
وينقل الإمام الآمدي -في كتابه ‘الإحكام‘- مختلف الآراء في مدى اعتبار “رأي العامة” في انعقاد الإجماع ويناقش أدلتها مرجحا اعتباره في صحة حصول الإجماع، ثم يلخص النقاش جاعلا لهم وزنا كبيرا في مصداقية هذا الإجماع إن كانوا جزءا منه؛ فيقول: “وبالجملة فهذه المسألة اجتهادية؛ غير أن الاحتجاج بالإجماع عند دخول العوامّ فيه يكون قطعيا وبدونهم يكون ظنيا”.
وما قرره الآمدي هو ما أثبته قبله الجويني -في كتابه ‘التلخيص‘- لكن بصيغة أخرى عمادها التفريق بين “إجماع الأمة” و”إجماع علماء الأمة”، رغم ترجيحه أنّ خلاف العوام لا يقدح في الإجماع؛ فقد رأى “أنا إذا أدرجنا العوام في حكم الإجماع فنطلق القول بـ‘إجماع الأمة‘، وإن لم ندرجهم في حكم الإجماع -أو بَدَرَ (= ظهر) من بعض طوائف العوام خلاف- فلا يُطلق القول بإجماع الأمة، فإنّ العوام معظم الأمة وكُثْرها؛ بل نقول: أجمع علماء الأمة”.
فهذا التفريق بين: “إجماع الأمة” و”إجماع علماء الأمة” له دلالته في منح الإجماع قوة قطعية في نوعه الأول، باعتباره معبّرا عن مجموع الأمة لا الشريحة العالمة فيها فقط، وهو ما يعني إعطاء الرأي العام “قوة تشريعية” إلى جانب العلماء. وهذا هو أساس مبدأ “عصمة الأمة” الذي تحدث عنه علماء الإسلام مثل الغزالي والآمدي وابن تيمية (ت 728هـ/1328م).
فالغزالي قد أثبت هذا المبدأ -في مبحث الإجماع من كتابه ‘المستصفى‘- بقوله: “إنما يجوز الخطأ في اجتهاد ينفرد به الآحاد، أما اجتهاد «الأمة المعصومة» فلا يحتمل الخطأ كاجتهاد رسول الله ﷺ وقياسه، فإنه لا يجوز خلافه لثبوت عصمته، فكذا «عصمة الأمة» من غير فرق”.
والآمدي يقرر -في ‘الإحكام‘- أن “الأمة الإسلامية معصومة عن الخطأ” لأن ذلك مما “دلت عليه الدلائلُ السمعية (= النقلية)”، ثم يوضح أن هذه “العصمة [مُسْتمَدة] من صفات الهيئة الاجتماعية (= الرأي العام) من الخاصة (= العلماء) والعامة” من الناس، ولا شك أن “الهيئة الاجتماعية لها من القوة ما ليس للأفراد” بمفردهم؛ كما يقول الإمام بدر الدين الزَّرْكَشي (ت 794هـ/م) في كتابه ‘البرهان‘.
وأما ابن تيمية فإنه تعرّض -في ‘منهاج السُّنة‘- لما “ذكره العلماء في حكمة عصمة الأمة” الإسلامية؛ فأكد أن “هذه الأمة لا نبي بعد نبيها فكانت عصمتها تقوم مقام النبوة، فلا يمكن لأحد منهم أن يبدل شيئا من الدين إلا أقام الله من يبين خطأه فيما بدله، فلا تجتمع الأمة على ضلال”! وبذلك ندرك أن علماء الإسلام يقررون أن من أهم عناصر الرأي العام المجتمعي المكونة له ارتباطه بآلية “الإجماع القطعي” الذي هو “إجماع الأمة” وليس فقط “إجماع العلماء”.
وإذا كان العلماء ناقشوا -كما رأينا- مكانة العامة فأفسحوا لها حيزا كبيرا في الاختيار والترجيح للعلماء والآراء، وجعلوها مكوِّنا أصيلا في آلية إجماع الأمة وبالتالي جزءا ضروريا لاكتمال عصمتها؛ فإن العامة أيضا كان لها -إلى جانب العلماء أنفسهم- إسهام عظيم في عملية الاصطفاء والتمايز في صفوف العلماء أنفسهم، فكان ميلها نحو بعضهم كفيلا بوضعه على طريق “الإمامة العلمية” الموصلة إلى الخلود التاريخي.
اصطفاء شعبي
وهذا في الواقع مرتبط بحرية الانتماء الطوعي والتنظيم التي كانت تسمح للمجتمع الإسلامي بأن يتشكل في انتماءات مذهبية فقهية وطُرُقية سلوكية، بل وحتى في روابط مهنية وظيفية؛ فهذه المذاهب والطرق والروابط كانت من أكثر محاضن الرأي العام فعّالية في الفضاء الحضاري الإسلامي.
فقد كان من عوامل انتشار المذهب الفقهي أو الطريقة الصوفية التفاف العامة حوله وتكوُّن تيار من الرأي العام داعم له. وهذا لا يأتي عبر الانتخاب الآلي؛ بل بالتفاعل بين الرأي العام ورجال المذاهب والطرق، وبين هذه المذاهب والطرق والواقع الذي تعيش فيه، وبينهما وبين حرية الاختيار والانتماء التي يتمتع بها العامة.
ولذا كانت العامة إذا قبلت عالما أو فقيها أو صوفيا مُربِّيا وتكاثرت في حضور مجالسه عُدّ هذا الحضور دليلا على قوة ذلك العالم ومتانة مذهبه أو طريقه، وأثنى عليه المترجمون في كتب التراجم والطبقات المذهبية. فهذا الإمام النووي (ت 676هـ/1374م) يقول -في ‘شرح مسلم‘- في ترجمة الإمام المحدِّث أبي بكر بن أبي شيبة (ت 235هـ/850م) صاحب ‘المصنَّف‘: “واجتمع في مجلس أبي بكر نحو ثلاثين ألف رجل”!
ولا يستغرب هذا العدد الهائل في مجلس هذا الإمام؛ فقد كانت مجالس العلم أيامها كثيرا ما تُعقد في فضاءات مفتوحة تسع عشرات الآلاف، وكان المجلس يضم “مُسَمِّعين” كل منهم يوصل كلام الشيخ لمن حوله من الحاضرين.
وكانت المكانة العظيمة للإمام البخاري (ت 256هـ/870م) في أوساط الرأي العام ببلده من أسباب محنته وطرده منه؛ فقد روى الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘سير أعلام النبلاء‘- أنه “لما قدِم أبو عبد الله [البخاري إلى مدينته] بُخارَى نُصب له القباب على فرسخ (= 5كم) من البلد، واستقبله عامة أهل البلد حتى لم يبق مذكور إلا استقبله، ونُثر عليه الدنانير والدراهم والسكّر الكثير”!!
لكن هذا الاحتفال الهائل أثار غيرة بعض مشاهير علماء البلاد فادّعوا عند أمير بُخارى –من قِبل الدولة الطاهرية- خالد بن أحمد الذُّهْلي (ت 270هـ/978م) أن الإمام البخاري “أظهرَ خلافَ السُّنة”، فحذَّر منه الأميرُ “أهلَ بخارى، فقالوا: لا نفارقه! فأمره الأمير بالخروج من البلد، فخرج” منها إلى سمرقند حيث توفي!!
وكان للإمام الغزالي في بغداد وحدها ثلاثمئة تلميذ ثابت يحضرون له، وعن ذلك يقول في كتابه ‘المنقذ من الضلال‘: “وأنا مَـمْنُوٌّ (= مُمْتَحَنٌ/مُبْتلَى) بالتدريس لثلاثمئة نفر من الطلبة ببغداذ (= بغداد)”. ويروي الذهبي أن الواعظ المحدِّث شمس الدين محمد بن يحيى الطائي الواسطي (ت 633هـ/1236م) “تقدَّم على أقرانه بالديار المصرية، وحصل له قبول زائد من العامة”!
جماهيرية داعمة
وربما بلغت جماهيرية بعض العلماء مستوى عظيما يوصف معه -في كتب التراجم والتاريخ- بأنه كانت “العامة حزبه” أو كان “شيخ العامة”؛ فقد قالوا مثلا إن خطيب البصرة وزاهدها عبد الباقي بن الحسن الشاموخي (ت 485هـ/1092م) “كان مشهورا بزهد وخير وأمر بمعروف، وكان العامة حزبه..، وكانت جنازتُه حَفِلة (= عظيمة)”؛ وفقا للذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.
وترجم الذهبي للمتكلم والفقيه والمحدِّث الأندلسي إبراهيم بن يوسف المالقي (ت 611هـ/1214م) المعروف بابن المرأة، فقال إنه “روى ‘الموطَّأ‘..، وكان فقيها حافظا للرأي أديبا، غلب عليه علمُ الكلام فَرَأَس فيه..، وكانت العامة حزبه”!! كما قال عن الإمام مجد الدين علي بن وهب المنفلوطي المالكي (ت 667هـ/1268م) إنه “كان أحد العلماء المشهورين والأئمة المذكورين..، معظما عند الخاصة والعامة..، كثير السعي في قضاء حوائج الناس”!
ولعل في هذا البعد الخدمي للناس الحاصل في سيرة هذا الإمام -وهو والد الإمام العظيم ابن دقيق العيد (ت 702هـ/1302م) الموصوف بأنه “مجدد المائة السابعة”- ما يعزز مكانته عند العامة، فهو يعلمهم أحكام دينهم ويخدمهم في حوائج دنياهم!
وفي ترجمة هبة الله المَرْوَزِي (ت 522هـ/1128م)؛ قال عنه الإمام ابن حجر (ت 852هـ/1448م) -في ‘لسان الميزان‘- إنه “محدث كثير المحفوظ له قبول عند العامة إلا أنه كان غير ثقة”، يقصد بالمعايير الفنية لأهل الحديث. وفي ترجمة الشهرستاني الأشعريّ يقول المؤرخ ابن خلِّكان (ت 681هـ/1282م): “وظهر له قبول كثير عند العوام”.
وفي المقابل؛ كان العلماء يحفظون لعامة الشعب حقهم في مجالستهم وحضور دروسهم للاستفادة والتزود بما يمكن من المعارف، ويرفضون أن تكون في العلم طبقية بحيث لا يناله إلا خاصة الناس من أبناء الأمراء والوجهاء.
ومن نماذج ذلك ما يذكره الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- من أن الإمام المحدِّث أبا داود السجستاني (ت 275هـ/888م) -وهو مؤلف ‘سُنن أبي داود‘- طلب منه مرة الرجل الثاني في البلاط العباسي الأمير أحمد الموفَّق (ت 278هـ/891م) أن يخصص لأبنائه مجلسا يأخذون عنه فيه الحديث “فإن أولاد الخلفاء لا يقعدون مع العامة”! فما كان من الإمام إلا أن رفض طلبه قائلا: “أما هذه فلا سبيل إليها، لأن الناس في العلم سواء..؛ فكانوا يحضرون [مجلسه].. ويسمعون مع العامة”!!
بل إن كثيرا من العلماء كانوا يخصون العامة من الناس بمجالس يسمّعونهم فيها الحديث النبوي ويفقهونهم في دينهم؛ ومنهم العالم الأندلسي الشهيد أبو القاسم أحمد بن محمد الأميني المرسي (ت 622هـ/1225م)، الذي قال الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- إنه “كان بارعا في فنون نقلية وعقلية، وغلب عليه الفقه على طريقة السلف..، وله يد في الطب، ومعرفة بالحديث، ومجلس عام للعامة”.
ويقول السخاوي (ت 902هـ/1496م) -في ‘الضوء اللامع‘- مترجما للفقيه المحدّث محمد بن محمد الغزي الشافعي (ت 885هـ/1480م) إنه “قرأ الحديث على العامة في بلده”، كما يحكي أن إبراهيم بن أحمد التنوخي الشافعي (ت 888هـ/1483م) “قرأ [صحيح] البخاري على العامة في الجامع الأموي والناصري” بدمشق.
تنافس محتدم
فهذه نماذج من مقبولية المؤمنين والعامة للعالِم سواء كان فقيها أو محدثا أو واعظا أو متكلِّما، وهناك مستوى آخر يتعلق بإعراض العامّة عن فقيه أو عالِم لسبب مذهبيّ أو عاطفيّ ونحو ذلك. فهذا الإمام المحاسبي الصوفي (ت 243هـ/857م)؛ قال ابن خلِّكان في ترجمته من ‘وفيات الأعيان‘: “كان أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م) يكرهه لنظره في علم الكلام وتصنيفه فيه..، فاستخفى من العامة، فلما مات لم يصلّ عليه إلا أربعة نفر”!!
ولا يعني رفض العامة لعالِمٍ أنه مخطئ حقًّا أو ضال المنهج؛ وإنما الشاهد هنا هو قوة كلمة الرأي العام حين يلتف العامة حول عالم أو ينفضون عن آخر، بغض النظر عما ورائيات ذلك الموقف، فقد يكون توجيه عاطفة العامة ومشاعرهم توظيفا من سلطة سياسيّة، أو من خصوم مذهبيين، أو غيرة من بعض أقرانه العلماء، ونحو ذلك من الأسباب؛ كما رأينا في قصة الإمام البخاري رغم أن العامة ظلت تقف بجانبه ما دام في بلده رغم تنفير السلطة منه.
إنّ جلّ الاشتباكات العلمية التي دارت بين العلماء والمذاهب والطوائف كانت ولا تزال -في حقيقة الأمر- نزاعا على الرأي العام وجماهير العامة، مما يدلّ على أنها المركز الذي يشتبك الجميع حوله ويتصارعون عليه. ويظهر ذلك في ‘رسالة التشبيه‘ التي كتبها الجاحظ (ت 255هـ/869م) للقاضي المعتزلي أبي الوليد ابن أبي دُؤاد (ت 239هـ/853م)، يخوّفه فيها من تأثير الحنابلة ويضخّم لديه صيتَهم لدى العامة لأن “الغلبة لمن كانت معه.. والمقهور من كانت عليه..، ولكنا كما نخافهم نرجوهم.. ونطمع فيهم..؛ ثم قد علمتَ ما كنا فيه من.. إخافة علماء المتكلمين”!
ورغم أن الجاحظ هو الذي يروي -في رسالة ‘فصل ما بين العداوة والحسد‘- مقولة: “استوصوا بالغوغاء خيرا فإنهم يطفئون الحريق، (ويُخرجون الغريق)، ويسدُّون البُثُوق (= خروق الفيضان)”؛ فإنه كان شديد البغض لهم دائم الهجوم عليهم، ويحذر من اتفاقهم وتكتلهم حول قيادة بصيرة تصل بهم إلى أهدافها، وكأنه تأثر أكثر بمقولة الشاعر خالد بن صفوان التميمي (ت 135هـ/754م) لم يرَ في العامة سوى أنهم “يُغْلون الأسعار، ويضيّقون الأسواق، ويكدِّرون المياه”؛ وفقا لابن عبد ربه (ت 328هـ/940م) ‘العقد الفريد‘.
فالجاحظ يرى -في ‘رسالة التشبيه‘- أن “العوام.. إذا كانت نَشَراً (= متفرقين) فأمرُها أيسر، ومدة هيْجها أقصر، فإذا كان لها رئيس حاذق ومُطاع مُدبِّر وإمام مقلَّد؛ فعند ذلك ينقطع الطمع [من نصرتهم]، ويموت الحق ويقتل المـُـحِقُّ”!!
ويضيف فيما يبدو أنه يعني به هنا أهل الحديث من الحنابلة وغيرهم: “والحق أن المتكلمين أحْرِياء (= مستحِقون) أن يخافوا العوام الذين يعتمدون على السلطان والقدرة، وعلى العدد والثروة، وعلى طاعة الرعاع والسفلة”! ويحكي الجاحظ أنّ من يسميهم “العوام” كانوا يعارضون الكلام قبل “محنة خلق القرآن” ويأبون مناظرة المتكلمين في هذه المسألة، وهو ما يؤيد أنه يقصد بالعوام هنا أهل الحديث.
وكلام الجاحظ -بما كان له حينئذ من مكانة داخل النخبة المعتزلية والسلطوية- يثبت أنّ العامة كان تأثيرهم كبيرا على العلماء والفِرَق والتيارات الفكرية، وأنّ تلك النخب غضبت من ميل العامة مع خصومهم من أهل الحديث. ولعل في موقف الجاحظ وخالد بن صفوان -وهما أديبان من المعتزلة- من العامة ما يسمح بمقارنة موقف “التيار العقلاني” قديما بموقف “نظيره” المعاصر حين يأخذ على “العامة” دعمها لخصومه الفكريين المنتمين إلى “التيار المحافظ”.
أدوار تاريخية
بالنظر إلى وقائع التاريخ؛ نجد أنّ العامة كانوا هم عماد حركات التغيير الكبرى وأصحاب الدور المؤثر في نجاحها، مثل انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين أواخر الثلث الأول من القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، وما أعقبه من ظهور للدويلات المستقلة عن مركز الخلافة منذ نهايات القرن نفسه، ثم بروز عصر السلاطين في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، وكذلك مختلف الثورات الجزئية مثل ثورة الزنج (255-270هـ/869-883م) وفتن حركات العيّارين واللصوص، والتقلبات التي حدثت طوال عصور الإسلام وعبر امتداد جغرافيته الشاسعة.
بل إنّ النبي ﷺ أكثر من آمن برسالته في بداية الدعوة هم العامة المستضعفون وليس الزعامات، كما خوطبوا بالوحي والرسالة تماما مثل النخبة فكان المكلف بتعاليمها جميع العاقلين البالغين من أفراد الأمة، وهذه العمومية في التكليف هي التي احتجت بها طائفة من علماء الأصول جعلوا “موافقة العامة للعلماء المستدِلِّين (= المجتهدين) شرطا في جعل الإجماع حجة” شرعية ملزمة؛ وفقا للآمدي.
ثمّ إن هؤلاء العامة كانت لهم أدوار كبيرة في المعارك والغزوات لتأسيس دولة الإسلام وأدوار أخرى في بيعة الخلفاء، لكن الدور الأهم واللافت هو تحركهم ضد الخليفة الراشد عثمان بن عفان (ت 35هـ/656م) رضي الله عنه، الذي بدأ احتجاجا سلميا على بعض سياساته باعتباره “إمام العامة” وفقا لوصف المغيرة بن شعبة (ت 50هـ/671م) عند الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘، ثم انحرف هذا الاحتجاج عن مساره حتى انتهى بمأساة استشهاده.
يروي المؤرخ المحدِّث عمر بن شَبَّة البصري (ت 262هـ/876م) -في كتابه ‘تاريخ المدينة‘- أنّ السيدة أم المؤمنين عائشة (ت 58هـ/679م) رضي الله عنها قالت لعثمان لما طلب الناس منه عزل عبد الله بن سعد ابن أبي سرح (ت نحو 40هـ/661م) عن ولاية مصر: “تقدَّمَ إليك أصحابُ محمد ﷺ وسألوك عزلَ هذا الرجل فأبيتَ”!
ولعل هذا الموقف من عائشة كان نابعا مما عُرف عنها من بصيرة بمواقف الرأي العام واهتمام بمصالح عامة الناس، حتى قال عنها الإمام التابعي عطاء بن أبي رباح (ت 115هـ/734م): “كانت عائشة أفقهَ الناس وأعلمَهم، وأحسنَ الناس رأياً في العامة”؛ طبقا للذهبي في ‘السِّيَر‘. والحق أنها في ذلك إنما كانت تمتثل قول النبي ﷺ: «الدين النصحية.. لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» (رواه الإمام مسلم).
وكان مطلب الصحابة تعبيرا عن رغبة الرأي العام حينها، وهذا ما يدل عليه قول علي بن أبي طالب (ت 40هـ/661م) رضي الله عنه -“وكان متكلِّمَ القومِ” حسب ابن شَبَّة- للخليفة عثمان: “إنما سألوك (= العامة) رجلا مكان رجل، وقد ادعوا قِبَلَه (= عنده) دَماً، فاعزلـ[ـه] عنهم واقْضِ بينهم، وإن وجب عليه حقٌّ [لهم] فأنصفهم منه”! فاستجاب عثمان لطلب العامة، بل وقال لهم: “اختاروا رجلا أولّيه عليكم مكانه”.
اهتمام مؤصَّل
وهذا يدل على موقع العامة في العقل الجمعي لمجتمع صحابة رسول الله ﷺ ممثَّلِين في علي وعائشة رضي الله عنهما، وإدراكهم أنّ فلسفة الحكم ترمي إلى إرضاء العامة وإنفاذ ما يريدونه ما دام منسجما مع ضوابط المصلحة العامة، باعتبار الإمام وكيلاً عنهم ونائبا يدير شؤونهم، وذلك لمحض الحاجة والضرورة واستحالة إدارة جماعة دون رئيس.
ولعل الصحابة استمدوا ذلك من قوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾؛ (سورة التوبة/الآية: 105)؛ فهذه الآية تعطي للرأي العام [المؤمنون] في الإسلام حق الرقابة على سلطاته الرسمية ومختلف مكوناته المجتمعية، وفي ذلك يقول العلامة رشيد رضا (ت 1354هـ/1935م) -في ‘تفسير المنار‘- إن هذه “الآية تهدينا إلى أن مرضاة جماعة المؤمنين.. تلي مرضاةَ الله ورسوله، وأنهم لا يجتمعون على ضلالة… [كما في] الحديث.. «لا تجتمع أمتي على ضلالة»..، وفي معناه قول ابن عباس (ت 169هـ/785م): ما رآه المسلمون حَسَناً فهو عند الله حَسَن”!
ويذهب الآمديّ إلى وجوب احترام رأي العامة عند البيعة وأنّ بيعة بعض الشعب لا تكون كافية إلا بشرط موافقة الأمة، أي أنهم ممثلون للأمة في هذه الحال لا مستبدون بأمرها من دونها. ويستدل بكلام لأبي بكر الباقلاني في ذلك: “ويجب أن يكون ذلك بمحضر من الشهود، وبينة عادلة، كفًّا للخِصام ووقوع الخلاف بين الأنام”. فتقرير العلماء لمكانة الرأي العام -أو “رأي العامة” بتعبير الأقدمين- في إبرام البيعة السياسية لمن يتولى الحكم يمثل تصورا كبيرا من الفقهاء لمرجعية الشعب في المشروعية السياسية.
وذلك محل اتفاق بين العلماء المتكلمين في أحكام الإمامة؛ فنجد عند الغزالي يقرر -في ‘فضائح الباطنية‘- أن الخليفة الراشد أبا بكر الصدّيق (ت 13هـ/635م) “لو لم يبايعه غير عمر (بن الخطاب ت 23هـ/645م) وبقي كافة الخلق له مخالفين، أو انقسموا انقساماً متكافئا لا يتميز فيه غالب عن مغلوب؛ لما انعقدت له الإمامة”.
كما يؤكد ابن تيمية -في ‘منهاج السُّنة‘- شرعية عموم الأمة في بيعة أمرائها؛ فيقول عن بيعة الصدّيق: “ولو قُدِّر أن عمر وطائفة معه بايعوا أبا بكر وامتنع سائرُ الصحابة عن البيعة لم يصر إماما بذلك، وإنما صار إماما بمبايعة جمهور الصحابة”. ويقول عن بيعة الفاروق: “وكذلك عمر لما عَهِد إليه أبو بكر [بالخلافة]، إنما صار إماما لما بايعوه وأطاعوه، ولو قُدِّر أنهم لم ينفِّذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يَصِرْ [عمرُ] إماما”.
فالغزالي وابن تيمية يرسخان هنا سياسيا -رغم تباين مدرستيهما الكلامية والفقهية والسلوكية- لمسألة مركزية الأمة في الاختيار والقبول أولا، ولمسألة تقديم إرادة الأكثرية ثانياً، وهو ما ترسخ في النظام السياسي الحديث، لكنه كان يُعرف قديما -في الفكر والممارسة السياسييْن عند المسلمين- بـ”بيعة العامة”.
تقليد راسخ
وكانت تلك البيعة العامة تقليدا سياسيا يحرص عليه -حتى ولو كان شكليا- مَنْ وصلوا إلى السلطة ولو بالقوة؛ كما فعل العباسيون حين أعلنوا انتصار ثورتهم في معقلها الكوفة، فـ”خرجوا جميعا إلى جامع الكوفة فبويع (أبو العباس السفاح ت 136هـ/754م) وخطب في الناس..، ثم نزل السفاح ودخل القصر، وأجلس أخاه (أبا جعفر المنصور ت 158ه/776م) يأخذ بيعة العامة”؛ طبقا للذهبي في ‘السِّيَر‘.
واستمرّ هذا التقليد طيلة عهود الحكم المتعاقبة حتى سقوط الخلافة العباسية ببغداد على أيدي التتار سنة 656هـ/1258م؛ وكان من آخر من حفظت لنا كتب التاريخ التزامه بهذا الرسم السياسي الخليفة العباسي الظاهر ابن الناصر (ت 623هـ/1226م)؛ فقد بايعه أولا “أهله وأقاربه من أولاد الخلفاء” ثم كبار المسؤولين: “نائب الوزارة” (= رئيس الوزراء) و”أستاذ الدار” (= مدير ديوان الخليفة) و”قاضي القضاة”، ثم “بويع يوم عيد الفطر البيعة العامة..، فكان.. أستاذ الدار.. هو الذي يأخذ [له] البيعة على الناس”؛ وفقا للذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.
ينقل النويري (ت 733هـ/1333م) -في ‘نهاية الأرب‘- عن أمير تونس إبراهيم بن أحمد الأغلبي التميمي (ت 289هـ/902م) قوله إن الرعية هم “مادّة الـمُلْك، فإن أباح [الأمير] ظُلمَهم لم يصل إليه نفعهم ولحقه الضرر، وصار النفع لغيره”؛ ولذا كان التنافس قائما بين الفقهاء والسلاطين على كسب مواقف الرأي العام ودعم عامة الشعب، والسعي لتأمين خطرها “لأن العامة إذا انتكثت للخاصة وتنكرت للقادة.. كان البوار الذي لا حيلة له والفناء الذي لا بقاء معه”؛ طبقا لرأي الجاحظ في ‘رسالة الحنين إلى الأوطان‘.
ومن هنا يمكن فهم أن الخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ/833م) إنما غضب من علماء “المحنة” خوفا من تأسيس مرجعية موازية له مدعومة من “رأي العامة” وتؤثر في تصوراتهم، وخاصة المحدِّثين -بقيادة الإمام أحمد بن حنبل- الذين كانوا حينها يستطيعون التأثير في العامّة؛ كما يُفهم من كلام الجاحظ السابق.
بل إن الذهبي يلمح -في ‘السِّيَر‘- إلى أن المأمون لم يستطع إعلان موقفه من “خلق القرآن” إلا بعد وفاة الإمام يزيد بن هارون السُّلَمي (ت 206هـ/821م)، وكان يقول: “لولا مكان يزيد بن هارون لأظهرتُ [القول بأن] القرآن مخلوق، فقيل: ومن يزيد حتى يُتَّقَى؟ فقال: ويحك! إني لأرتضيه لا أن له سلطنة، ولكن أخاف إن أظهرته فيردّ عليّ فيختلف الناس وتكون فتنة”!! ولا غرابة في خشية الخليفة من عالم “يقال إن في مجلسه سبعين ألفا” من الأتباع بعد أن “احتفل محدثو بغداد وأهلها لقدومـ[ـه].. وازدحموا عليه لجلالته”؛ طبقا للذهبي.
ولذا كانت العامة -طوال العصور- إحدى أدوات الضغط السياسي والاجتماعي والديني، بما كانت تلجأ إليه من أساليب الاحتجاج السلمية والعنيفة. فنحن نجد مثلا -طبقا لرواية النويري- أنه لمـّا استبد بحكم مصر الحاكمُ بأمر الله الفاطمي (ت 411هـ/1021م) وأفسد حياة أهلها بل وادّعى الألوهية؛ تحرَّك العامة أولا للاحتجاج السلمي على الأوضاع سنة 410هـ/1020م، ووضعوا في الطرقات “صورة (= تمثال) امرأة.. عُملتْ من قراطيس، وفى يدها جريدة (= سعف نخيل) عليها ورقة فيها سَبٌّ للحاكم وأسلافه وذكره بقبيح الفعال”!
فاعل أصيل
ونجدُ كثيراً في كتب التاريخ أنّ العامّة كانت لهم مواقع في الحياة السياسية والاجتماعية، أي كانوا فاعلين وليس منفعلين فحسب؛ وخاصة إذا وقع ما يعتبرونه انتهاكا للمحرمات أو المقدسات الدينية، أو حدث مستوى لا يطاق من تردي الأوضاع الأمنية والمعيشية.
ومن أمثلة ذلك أن السيوطي تحدث -في ‘تاريخ الخلفاء‘- عن “ثورة الحَرَّة” سنة 63هـ/684م التي كان وقودها عامة الناس بقيادة جمْع من الصحابة -مهاجرين وأنصارا- بالمدينة المنورة على حكم الأمويين في عهد يزيد بن معاوية (ت 64هـ/685م)؛ فقال: “وكان سبب خلع أهل المدينة له أن يزيد أسرف في المعاصي”!
وكان للرأي العام سطوة يفرض بها مطالبه بشأن من يتولى إدارة شأنه اليومي؛ فالإمام ابن كثير (ت 774هـ/1372م) يحدثنا -في ‘البداية والنهاية‘- أنه في سنة 194هـ/810م “خَلَع أهل حمص نائبهم فعزله عنهم الأمين” الخليفة العباسي (ت 198هـ/814م)، ثم ولّى عليهم واليا جديدا هو عبد الله بن سعيد الحَـرَشي (ت بعد 202هـ/817م) ففتك بهم، وقتل كثيرا منهم ليُخمد تمردهم لكنهم لم يخضعوا، وبعبارة ابن كثير: “ثم هاجوا فضرب أعناق كثير منهم أيضا”!
وفي ما ورائيات تلك الرواية ندرك أنّ أرض الشام كانت خصيبة بمجتمع مدني فاعل ومُتحرّك وضاغِطٍ، استطاع أن يعزل نائباً ويثور على آخر رغم ما تعرض له. ونجد في عبارة ابن كثير لفتة لطيفة، فقد نسب “خلع” الوالي إلى أهل حمص، ولم ينسبه إلى وجوهها وأعيانها وأهل الحل والعقد فيها!
وفي مثال مشابه حصل بعد قرون في مصر، مما يوحي بتواصل ظاهرة الرأي العام الضاغط زمنيا وتمددها جغرافياً؛ يقول ابن حجر -في ‘إنباء الغُمْر‘- إنه في أحد أيام سنة 775هـ/1374م “اجتمع العوام بالمصاحف وسألوا [الأمراءَ] أن يعزلوا علاء الدين بن عرب (ت بعد 781هـ/1379م) عن [ولاية] الحسبة، فعُزِل”. ويقول إنه في سنة 791هـ/1389م “اجتمع العوام فشكوا من المحتسب، فأحضره.. [الأميرُ] وضربه مئتيْ عصا وعزله”.
مشروعية لازمة
فمسألة تولية الولاة وعزلهم لم تكن أمراً سلطانيا صرفا كما قد يظن البعض، بل كانت لمقبولية المؤمنين ورضا العامة -وهو ما يُسمَّى اليوم في العلوم السياسية بـ”السيادة الشعبية” أو “المشروعية الشعبية”- مدخلا مهما في ذلك. ولذلك كان الخلفاء الراشدون حريصين على استرضاء العامة؛ فقد جاء في ‘صحيح البخاري‘ أنه “شكا أهل الكوفة سعدا (= سعد بن أبي وقاص ت 55هـ/676م) إلى عمر، فعزله [عنهم] واستعمل عليهم عمارا (= عمار بن ياسر ت 37هـ/658م)”، وكان ذلك سنة 22هـ/644م حسب قول الذهبي في كتابه ‘العِبَر‘.
وقد قال الإمام ابن بَطَّال القرطبي (ت 449هـ/1058م) -في ‘شرح صحيح البخاري‘- تعليقا على هذا السلوك العُمَري الذي تكرر في أكثر من بلد: “وفيه أن الوالي إذا شُكيَ به أنه يُعزَل إذا رأى ذلك الإمامُ (= السلطان) صلاحا له ولمن شكا به، وإن كذب عليه في الشكاية؛ لأن سعدا أثنى عليه أهل الكوفة خيرا غير شيخ منهم، فعزله عمر ورأى ذلك صلاحا للرعية والسياسة لها، لئلا يبقى عليهم أمير وفيهم من يكرهه.. وربما يؤدي ذلك إلى ما تسوء عاقبته” بسبب تمرد الرأي العام واضطراب الأحوال.
يعرض المؤرخ الجَبَرْتي (ت 1240هـ/1822م) -بنحو متكرر في كتابه ‘عجائب الآثار‘- تفاصيل وقائع الاحتجاجات الشعبية في مصر خلال العهد المملوكي/العثماني التي كان يلتحم فيها علماء الأزهر مع مطالب الرأي العام، فكانوا -بالتحالف مع التجار والأعيان ضد الأمراء حينئذ- يقودون تحركات العامة، التي كانت تؤدي غالبا إلى إعلان إضراب عام تغلق خلاله الأسواق ويوقف الدراسة في أروقة جامع الأزهر، حتى يتم تنفيذ مطالب جموع الشعب ويُردع المعتدون.
فقد قال الجبرتي إنه في سنة 1199هـ/1785م “ورد الخبر بوصول باش (= باشا: الوالي) مصر الجديد إلى ثغر الإسكندرية وكذلك باش جدة، ووقع قبل ورودهما بأيام فتنة بالإسكندرية بين أهل البلد وآغَات (= حرّاس) القلعة والسِّرْدار (= قائد الجند) بسبب قتيل من أهل البلد قتله بعض أتباع السردار، فثار العامة وقبضوا على السردار وأهانوه وجرّسوه (= شهّروا به) على حمار وحلقوا نصف لحيته، وطافوا به البلد وهو مكشوف الرأس وهم يضربونه ويصفعونه بالنعالات”!
ومن ذلك أيضا ما يرويه في أحداث سنة 1209هـ/1794م قائلا إنه حضر إلى شيخ الأزهر عبد الله الشرقاوي (ت 1227هـ/1812م) أهالي قرية تابعة لمدينة بلبيس، واشتكوا إليه من بعض متنفذي المماليك الذين “ظلموهم وطلبوا منهم ما لا قدرة لهم عليه، واستغاثوا بالشيخ فاغتاظ وحضر إلى الأزهر وجمع المشايخ.. وقفلوا الجامع وأمروا الناس بغلق الأسواق والحوانيت، ثم ركبوا.. واجتمع عليهم خلق كثير من العامة وتبعوهم” إلى مقرات المسؤولين عن البلاد، حيث خاطبوهم قائلين “نريد العدل ورفع الظلم والجور وإقامة الشرع…، وانحطّ (= انتهى) الأمر على أنهم تابوا ورجعوا والتزموا بما شرطه العلماء عليهم، وانعقد الصلح على أن… يكفوا أتباعهم عن امتداد أيديهم إلى أموال الناس”.
مخاوف سلطوية
يحاول السلاطين عادة تنحية العامة عن الاهتمام بالسياسة وقضاياها؛ ولذا فإنّ المؤرخ الصفدي (ت 764هـ/1363م) يروي -في ‘الوافي بالوفيات‘- أن الخليفة العباسي الناصر لدين الله (ت 622هـ/1225م) عزل أحد المسؤولين في الدولة عن منصبه، وكتب له قائلا: “ما عزلناك لخيانة ولا لجناية ولكن للملك أسرار لا تطلع عليها العامة”. أي أن النخبة كانت حريصة على عدم معرفة العامة بمجريات الأمور، وذلك لتجنب غضبهم وثوراتهم.
وفي ترجمة الوزير العباسي المصلح ظهير الدين الرُّوذْرَاوَرِي (ت 488هـ/1095م)؛ يقول ابن خلِّكان: “وولِيَ الوزارةَ للإمام (= الخليفة) المقتدي بأمر الله (ت 487هـ/1094م) بعد عزل [الوزير] عميد الدولة أبي منصور ابن جهير (ت 493هـ/1100م)..، وخرج (= ظهير الدين) بعد عزله ماشياً يوم الجمعة من داره إلى الجامع، وانثالت (= تدفقت) عليه العامة تصافحه وتدعوا له، وكان ذلك سبباً لإلزامه بالقعود في داره”.
وعلى ما يبدو؛ فإن السلطة تخوفت من تأثيره في العامة وتذكيرهم بأيامه السعيدة ففرضوا عليه الإقامة الجبرية، وذلك لأن غضب رؤوس القوم -كالعلماء والأعيان- محدود ويمكن كبحه واحتواؤه، بيد أن غضب العامة بخلاف ذلك. ومن ذلك أيضا ما حكاه ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) -في ‘المنتظم‘- من أنه في سنة 330هـ/942م “قام رجل من العامة في جامع الرصافة والإمام يخطب، فلما دعا للمتقي لله (الخليفة العباسي ت 357هـ/968م) قال له العامي: كذبت، ما هو بالمتقي! فأخِذ وحُمِل إلى دار السلطان”.
وحاول الأمراء معرفة سلوك العامة والقواعد التي تحكم اجتماعاتهم وتصرفاتهم، في عملية أشبه ما تكون بدراسات علم الاجتماع السياسي في عصرنا؛ فابن الأزرق الغرناطي (ت 899هـ/1494م) يخبرنا -في ‘بدائع السِّلك‘- أنه “يُحكى أن أبا جعفر المنصور [العباسي] توقف أياما عن الخروج إلى الناس، فقالوا هو عليل فكثروا القول، فدخل عليه وزيره الربيع (بن يونس ت 169هـ/785م) فقال: يا أمير المؤمنين أدام الله لك في البقاء أن الناس يقولون [الشائعات عنك]! قال: وما يقولون؟ قال يقولون إن أمير المؤمنين عليل (= مريض)!!
فأطرق [المنصور] مَلِيًّا، ثم قال يا ربيع: مالنا وللعامة! إنما تحتاج العامة إلى ثلاث خلال، فإذا جعلت لهم فما حاجتهم: إذا أقيم لهم من ينظر في أحكامهم وينصف بعضهم من بعض، وإذا أمنت سبيلهم حتى لا يلحقهم خوف في ليل ولا في نهار، وإذا سُدَّتْ ثغورهم من أطرافهم حتى لا يصل إليهم عدوهم. ونحن قد فعلنا ذلك كله لهم؛ فما حاجتهم إلينا؟!”.
وكانت السلطة مهما بلغت قوتها تعمل حسابا للعامة وتخشى صنيعها؛ ومن ذلك أن الطبري يذكر -في تاريخه- أنه في سنة 284هـ/997م “عزم المعتضد بالله (العباسي ت 289هـ/902م) على لَعْن معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ/681م) -رضي الله عنه- على المنابر، وأمر بإنشاء كتاب (= مرسوم) بذلك يُقرأ على الناس”، ولم يتخلّ عن ذلك حتى خوّفه خاصته من رجال دولته من “أن تضطرب العامة ويكون منها عند سماعها هذا الكتاب حركة”، وما سينجم عن ذلك من سخط شعبي سيستغله ضده خصومُه من العلويين الثائرين بنواحي الدولة.
وتلك الرواية تُظهر احتياج الخلفاء والسلاطين إلى كسب ولاء العامة لإحداث توازن مع جماعات مناهضة ومعارِضة، لا سيما إذا ثارت وهاجت تلك الجماعات، فيخشى السلطان ألا يجد نصيرا من العامّة، وربما تحالفوا مع خصومهم ضدهم.
استثناء لافت
رغم أن الصورة المستقرة في الأذهان تُرسِّخ دور كثير من العامة فيما يشهده المجتمع من انحرافات اجتماعية ومبتدعات دينية؛ فإن كتب التاريخ تفتح أعيننا على صور أخرى مغايرة كان فيها قطاع واسع من عامة الناس واقفا في صف الإصلاح، وداعما للمصلحين من الأمراء والعلماء والوجهاء، انسجاما مع التوجه الشرعي الذي أتاح للرأي العام حق التشكل من خلال مسؤولية “الحِسبة” المجتمعية بالأخذ على يد الظالم، وحق تحمُّل وأداء الشهادات عند الترافع القضائي، وأعراف التكافل الاجتماعي لعون الضعفاء على مواجهة أعباء الحياة.
وهكذا كان كثير من العامة منخرطين في مجال الإصلاح المجتمعي دعما للعلماء والفقهاء، وعونا لمؤسسات الدولة في بسط الأمن الاجتماعي، وبالتالي كان إسهام الرأي العام في الحضارة الإسلامية يتعدى مجرد “اقتراح الرأي” وصياغة المزاج الشعبي، ليصل أحيانا كثيرة إلى مستوى ممارسة “الرقابة الشعبية” وتفعيل آليات الضبط الاجتماعي الإيجابي.
ومن أغرب صور ذلك الدَّور ما يحكيه ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- من أنه في سنة 329هـ/941م اضطربت الأوضاع السياسية والأمنية ببغداد، فـ”اجتمعت العامة في جامع دار السلطان، وتظلمت من الدَّيْلم (= عساكر البويهيين) ونزولهم في دورهم بغير أجرة، وتعديهم عليهم في معاملاتهم، فلم يقع إنكار لذلك [من السلطان]؛ فمنعت العامة الإمامَ من الصلاة وكسرت المنبرين..، ومنعهم الديلم من ذلك فقتلوا من الديلم جماعة”.
ونلاقي نماذج من انخراط عامة الشعب في مساعي ردع من يخرجون على المستقر لدى أغلبيتها من تعاليم الدين ومسائل العقيدة؛ فنجد مثلا الحافظ ابن حجر يترجم -في ‘لسان الميزان‘- للقاضي شعْبَوَيْه بن سهل الرازي (ت 246هـ/860م)، فيقول إنه “ولّاه المعتصمُ (الخليفة العباسي ت 227هـ/842م) القضاءَ والصلاة بجامع الرصافة [ببغداد]..، وكان مبغضا لأهل السنة مُتَنِّقِّصاً لهم.. وكتب على باب مسجده: القرآنُ مخلوق!.. فأحرق العامة بابه”.
وقد كان يحصل أحيانا أن يوظِّف بعض أهل العلم والزهد شعبيتَه العظيمة في ملاحقات خصومه الفكريين، وربما جمع في ذلك بين سطوة العامة وسلطة الساسة؛ كما في قصة المحدِّث الزاهد أحمد بن محمد الباهلي البصري المعروف بغلام خليل (ت 275هـ/888م) وحملته على صوفية بغداد؛ فقد وصفه الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- بأنه كانت له “جلالة عظيمة ببغداد”، وكان “«شيخ العامة» بها وصالِحَهم ورأسَهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على ضعفه [العلمي]..، وفيه حِدَّةٌ وتسرُّع”!!
وخلاصة هذه الواقعة -التي شغلت أهل العراق حينا من الدهر- أن غلام خليل استنكر “خوض الصوفية في دقائق الأحوال التي يذمها أهل الأثر (= المحدثون)..، فلم يزل.. يذكرهم في مجالسه ويحذّر منهم، ويُغْري بهم السلطان والعامة.. تحريضا عليهم..؛ فانتشر في أفواه العامة أن جماعة من أهل بغداد ذُكِر عنهم الزندقة”! ثم وظف الرجل علاقاته في بلاط الخليفة وأسرته حتى مالت إليه “الدولة والعوامّ لما هو عليه من الزهد والتقشف..، فطُلب القوم (= الصوفية) وفُرِّقَ الأعوان (= رجال الأمن) في طلبهم.. وكانوا نيفا وسبعين نفسا، فاختفى عامتهم”!!
مواقف جريئة
ويندرج في تلك الأنشطة مقاومة العامة لمظاهر الفرعونية السياسية؛ ومن ذلك ما ذكره ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- من أنه في سنة 411هـ/1021م “استقرّ أن يُزاد في ألقاب جلال الدولة (= السلطان أبو طاهر السلجوقي ت 435هـ/1044م) شاهِنْشاه الأعظم: ملِك الملوك، فأمر الخليفةُ (= القائم بأمر الله العباسي ت 467هـ/1074م) بذلك فخُطب له به [في الجوامع]، فنَفَر العامةُ ورمَوْا الخطباءَ بالآجُرّ ووقعت فتنة”!!
وفي واقعة احتجاج شعبي أخرى؛ يقول ابن حجر -في ‘إنباء الغُمر‘- إنه في سنة 775هـ/1373م “لازم شخص من العوام الصياح تحت القلعة (= مقرّ السلطان): اقتلوا سلطانَكم تَرْخُص أسعارُكم، فأُخِذ وضُرب بالمقارع وشهر”!! وهذه الحادثة تدل أيضا على خشية القصر حينئذ من توسع وازدياد مثل تلك التحركات الفردية المناهضة، كما أنها مؤشر على شجاعة العامة وإقدامهم وتحريكهم للمياه الراكدة، حتى ولو تعرضت حياتهم للخطر ورزقهم للزوال.
وفي ترجمة عبد الرزاق الجركسي المؤيدي (ت 868هـ/1463م) يقول السخاوي -في ‘الضوء اللامع‘- إنه تولّى ولاية حلب بالشام “فلم يُحمْدَ فيها ورُجِم من أهلها فصُرِف (= عُزل)..، واستقر به [الأمر] في نيابة الشام (= دمشق) فلم تحمد سيرته أيضا لطمعه وشُحِّه وشَرَهه وإسرافه على نفسه إلى أن مات بها..، وسُرَّ أهل دمشق بموته كثيرا، ومَنَع العامةُ من دفنه فلم يُدفَن إلا بعد يومين”! فهنا نجد العامة يفرحون بموت الظالمين والمفسدين ويجهرون بذلك، وهذا نوع من الضغط الاجتماعي الذي يُرهِب كل من يعمل بالسنن السيئة في الشأن العام.
وفي حلب أيضا تحرك العامة سنة 1184هـ/1772م لممارسة الضغط على السلطة؛ حيث “اجتمع جم غفير من العلماء والعوام ودخلوا المحكمة الشرعية وطلبوا رفع بعض بدع وأمور منحرفة عن الدين، فأجيبوا إلى ما طلبوا”؛ وفقا للمؤرخ كامل الغزي (ت 1351هـ/1933م) في ‘نهر الذهب في تاريخ حلب‘.
ومن المواقف النبيلة للعامّة في ضبط عدوان المحسوبين على رجال السلطة ما يخبرنا به الجبرتي من أنه بعدما قام بعض الجنود والأمراء بنهب بيوت الناس بأحد أحياء القاهرة سنة 1200هـ/1785م؛ تحركت جماهير العامة “وحضروا إلى الجامع الأزهر ومعهم طبول.. وبأيديهم نَبَابِيت (= جمع نَبُّوت: عصا)”، وذهبوا إلى الشيخ أحمد الدَّرْدِير المالكي (ت 1201هـ/1786م) “فوافقهم وساعدهم بالكلام”.
وقد احتوى الشيخ الدَّرْدِير بذلك الكلام غضب جماهير المحتجين، ثم خاطبهم قائلا: “في غد نجمع أهالي الأطراف والحارات وبولاق ومصر القديمة، وأركب معكم وننهب بيوتهم كما ينهبون بيوتنا، ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم”! وعندما أحس المسؤولون بالخطر “ذهبوا إلى الشيخ الدَّرْدِير وتكلموا معه وخافوا من تضاعف الحال، وقالوا للشيخ: اكتب لنا قائمة بالمنهوبات ونأتي بها من محل ما تكون”!
وهكذا نجد أن الزعامة الشعبية للعلماء لم تكن فقط بسبب المكون العلمي في شخصياتهم، وإنما لإسهامهم في رفع المظالم عن عامة الشعب، ولذلك فهي زعامات يخلقها الرأي العام لسد فراغات السلطة حين تنسحب من الميدان وتتخلى عن مسؤوليتها.
المصدر : الجزيرة