صنف العلماء البشرية إلى أعراق خلال النصف الثاني من القرن 18؛ مما شكل في مخيلة باحثين غربيين صورة نمطية خيالية عن الشعوب السوداء لم تتغير حتى منتصف القرن 20.
وفي المقابل تطورت عبارة “زنجي” (Negro) عبر القرون الماضية، وأخذت أشكالا متعددة، وقد حملت في معظمها معان سلبية ونظرة استعلائية تجاه الأجناس ذات اللون الأسود.
وفي تقرير سابق له، قال موقع “ميديا بارت” (Mediapart) الفرنسي إن تصريحات للرئيس الفرنسي الأسبق، نيكولا ساركوزي، التي ساوى فيها بين “الزنوج” و”القرود”، تحرج اليمين المهووس بمنافسة حزبه، الذي يغض الطرف عن العنصرية في صفوفه.
وفي 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أثار الحكم الدولي الروماني، سيباستيان كولتيسكو، الجدل مجددا حول المصطلح العنصري في مباراة باريس سان جيرمان الفرنسي ونادي إسطنبول باشاك شهير التركي. وقد استخدم الحكم كلمة “أسود”، وهو يخاطب مساعده، في إشارة إلى المدرب المساعد في الفريق التركي، بيير ويبو، وهو لاعب دولي كاميروني سابق.
وأدى ذلك إلى انسحاب الفريقين من ملعب حديقة الأمراء بباريس، وعادوا مجددا لخوض المباراة في اليوم التالي مرتدين قمصانا، كُتب عليها “لا للعنصرية”، وجلسوا على ركبة واحدة تعبيرا عن رفضهم لما حدث في اليوم السابق.
زنجي أو أسود
في تقرير آخر نشرته صحيفة “لوموند” (Le Monde) الفرنسية، تقول الكاتبة آن شومان، إن كلمة “زنجي” ليست مجرد عبارة عادية نستخدمها في حياتنا اليومية؛ بل مصطلحا يحمل في طياته كثيرا من العنصرية، ويخفي مآسي العبودية والاستعمار.
ويقول الروائي الكندي الهايتي من الأصول الأفريقية، داني لافريير، إن كلمة “زنجي أسود” لها “صوت حاد يوقظك مثل السياط في مزارع قصب السكر أو القطن”. وتقول الروائية الفرنسية، آن ماري غارا، إن هذه العبارة التي ظهرت في القرن 16 تحرق “حنجرة ولسان وحنك وأسنان وحلق كل من ينطق بها”.
ووفق رأي غارا، لا تُستخدم هذه العبارة فقط للإهانة؛ بل أصبحت جزءا من ثقافة المجتمع في تسمية أنماط التسلية والمتعة، مثل تسمية حلوى الكريمبو المغطاة بالشوكولاتة الداكنة بحلوى “رأس العبد”، أو تسمية رقصة الباليه التي ابتكرها ماريوس بتيبا عام 1877 بـ”رقصة الزنوج”؛ لأن وجوه الأطفال تُطلى خلالها بالأسود.
ماضي العبودية
تقول الكاتبة إن هذه التعبيرات ليست مجرد اختيارات لغوية اعتباطية؛ بل هي مصطلحات مرتبطة ارتباطا وثيقا بتاريخ الاستعمار والعبودية.
وتؤكد أن مصطلح “أسود” أصبح شائع الاستخدام في الأوساط الأدبية الفرنسية منذ عام 1845، عندما هاجم أوجين دو ميركور، الروائي ألكسندر دوما، وهو أسمر البشرة، وخاطبه في أحد كتبه قائلا “افتح هذا المنشور، وستجد ذلك المتوحش. اختر أي نقطة في العالم المتحضر، وسرعان ما سيظهر لك الزنجي أسنانه”.
وعلى صعيد سياسي، ظهرت المفردة، التي كانت تعني أبناء العبيد، لأول مرة عام 1714 في مرسوم أصدره مورو دي سان ميري، النائب في الجمعية التأسيسية الفرنسية، حيث اعتبر انطلاقا من دراسات عن الأجناس وفئات الدم، أن “السود لم يكونوا من فصيلة البيض نفسها”.
ووفقا لأوريليا ميشال، أستاذة تاريخ الأميركيين السود في جامعة باريس، يذكرنا مصطلح “أسود” بعنف الأوروبيين ضد العبيد منذ القرن 16، ويستدعي إلى الذهن ماضيا كاملا من الهيمنة والاستعباد.
من نهر النيجر إلى المحيط الأطلسي
تشير الباحثة ميريام كوتياس، مديرة المركز الدولي للبحوث حول العبودية وما بعد العبودية، إلى أن استخدام كلمة “نيغرو” (أسود)، بدأ قبل 400 عام، وتعود جذوره إلى “نيغريتيا”، وهي منطقة في أفريقيا تقع حول نهر النيجر، وقد ارتبطت بحملات البحارة البرتغاليين؛ لتجنيد الرقيق والمتاجرة بهم عبر الأطلسي، وأطلقوا عليهم تسمية “الزنوج”.
ووفق المؤرخ وأستاذ العلوم السياسية، باب نداي، فإن كلمة “نيغرو” أو “أسود” ظهرت عام 1529 في كتاب يوثق رحلة أول ملاح فرنسي يصل إلى جزيرة سومطرة عبر رأس الرجاء الصالح، ثم بدأت الكلمة تنتشر تدريجيا بين البحارة والتجار، الذين أشرفوا على حملات تجارة الرقيق في المحيط الأطلسي، ثم في المجتمع بشكل عام. وبعد أن كان المصطلح يشير في البداية إلى لون بشرة هؤلاء العبيد، أصبح مع مرور الوقت مرادفا لكلمة “عبد”، وهو ما يظهر لاحقا في القواميس الفرنسية.
سُجّل هذا الربط بين المصطلحين لأول مرة عام 1771 في قاموس “تريفو” الذي ألّفه اليسوعيون. وتشير كلمة “أسود”، وفق هذا القاموس، إلى “كل الأمم المقهورة التي تندرج -وهي وصمة عار على جبين البشرية- ضمن قائمة السلع التي يمكن الاتجار بها”.
بعد بضعة عقود، أكد “قاموس التاريخ الطبيعي” ذلك التماهي بين المفردتين وبرره، حيث كتب جوليان جوزيف فيري عام 1803 في تعريف المصطلح “الأسود عبد وسيبقى كذلك”، وفق لوموند الفرنسية.
وقبل تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي كانت العبودية مرتبطة أساسا بأسرى الحرب أو العمل القسري لا بلون الجلد. وتقول كوتياس “خلال العصور القديمة والقرون الوسطى، كان معظم العبيد في منطقة البحر الأبيض المتوسط من البيض، وفي القرن 15، كانت أسواق الرقيق في البحر الأبيض المتوسط، وأساسا في مالطا أو قبرص، تعرض عبيدا من جميع الأعراق، بعضهم من أفريقيا؛ لكن معظمهم من الأتراك أو الروس أو الرومان أو البلغار أو اليونانيين”.
العبودية واللون الأسود
ترى الكاتبة أن تجارة الرقيق أصبحت مقترنة بذوي البشرة السوداء بعد ترحيل أكثر من 12 مليون أفريقي إلى أميركا بين القرنين 16 و19؛ لتعطي العبودية الأطلسية إشارة البدء للعنصرية العالمية ضد السود.
ويقول نداي، إنه “مع صعود هذه التجارة الاستعمارية الهائلة القائمة على استعباد الأفارقة، ظهر نظام اجتماعي قائم على الحط من شأن أولئك، الذين يطلق عليهم الزنوج”. وقد قامت أوروبا، وفق رأيه، بتكريس تسلسل هرمي بين الأجناس البشرية، يحتل فيه السود ذيل القائمة، ما يجعلهم “جاهزين تلقائيا كي يصبحوا عبيدا”.
وتقول المؤرخة، كاثرين كوكوري فيدروفيتش، إن التسلسل الهرمي الثقافي، وفقا لفكرة “الجميل والسامي”، التي صاغها إيمانويل، كانت في ستينيات القرن 19، تضع الألمان والإنجليز والفرنسيين في قمة الهرم، بينما يأتي السود في القاع.
ووفق إريك ميسنارد، أستاذ التاريخ وعضو المركز الدولي للبحوث حول العبودية، فإن فلاسفة عصر التنوير كانوا يؤمنون بهذا التقسيم العرقي والتفوق الغربي، رغم خطابهم الداعي إلى إلغاء الرق. وكان هؤلاء المفكرون يعتقدون -كما يقول ميسنارد- أنه يجب على أوروبا، التي تجسد الحضارة والتقدم، أن تحمل النور إلى هذه الشعوب غير المتحضرة”.
وكل هذه التراكمات جعلت من العنف سلوكا منهجيا في التعامل مع السود، بما في ذلك العمل القسري والتعذيب والاغتصاب والقتل، وفقا لميشال.
الحملات الاستعمارية والعنصرية العلمية
لئن ارتبطت كلمة “الأسود” بتاريخ تجارة الرقيق، فقد كان من المفترض أن تختفي في عام 1848 مع إلغاء الرق؛ لكن على العكس من ذلك، اكتسب المصطلح بعدا جديدا في نهاية القرن 19، وفق الصحيفة الفرنسية.
وترى كوتياس، أن التسلسل الهرمي العرقي، الذي نشأ أثناء حملات الاستعباد، بقي موجودا، وظهر خلال الفترة الاستعمارية، وأدب نهاية القرن 19 وخطابات الشخصيات العامة في بدايات الجمهورية الفرنسية الثالثة.
ووفق قولها، فقد تحول السود مع بدايات الحملات الاستعمارية الأوروبية في القارة السمراء، من عبيد، إلى شعوب متوحشة ينبغي على الأوروبيين إدخالهم إلى العالم المتحضر.
وتتابع قائلة “خلال الحملة الاستعمارية الثانية، بعد مؤتمر برلين (1884-1885)، واجهت القوى الأوروبية في القارة الأفريقية اختلافات جذرية، وتحولت كلمة أسود إلى معنى يشير بوضوح إلى الدونية. لم تعد المسألة متعلقة بالعبودية؛ لكن الأفكار العرقية التي ولدت مع تجارة الرقيق بقيت راسخة بعمق في أذهان الناس، واعتقد الأوروبيون أنه يتعين عليهم السيطرة على هؤلاء السود غير المتحضرين”.
ويحلل نداي ذلك التحول قائلا “العبيد السابقون، الذين أصبحوا رجالا أحرارا، صاروا حينها يشكلون خطرا؛ لأنهم يستطيعون المطالبة بالمساواة والعدالة الاجتماعية”، لذلك اعتبر الأوروبيون والأميركيون، بناء على نظريات يغذيها علم التشريح والطب، أن “الزنوج” لا يمتلكون القدرات الأخلاقية والفكرية لممارسة حريتهم.
وفي هذا السياق، اعتبر بول بروكا، عالم التشريح الفرنسي الذي عاش في القرن 19، بأن “الزنوج” أقل شأنا من الناحية الفكرية من البيض؛ لأن جماجمهم أصغر. وفي مقالته عن عدم المساواة بين الأجناس البشرية، يقول السياسي الفرنسي آرثر دي غوبينو (1816-1882)، إن قدرة السود على التفكير “متواضعة أو ربما معدومة”.
ووفق ميشال، فإن ما حدث في القرن 19، هو أن “العنصرية البيولوجية أعادت صياغة تلك الانحرافات الإنسانية الناجمة عن حملات العبودية”.
غرائبية مغرية
تقول الكاتبة إن تلك النظرة إلى السود لم تتغير إلا مع بداية الحرب العالمية الأولى، حينما تم تجنيد ما يقرب من 200 ألف أفريقي في الجيش الفرنسي، وقد استقر بعضهم في باريس بعد الحرب. وقد حولت الحرب أولئك السود، من سذج وكسالى ومنحرفين، إلى جنود شجعان يدافعون عن فرنسا.
ووفق نداي، فإن النظرة إلى السود تغيرت تدريجيا في فرنسا ما بين الحربين العالميتين، وأصبحت مقترنة بحب الاطلاع على الثقافات والعادات الأفريقية، وبلغ ما يُعرف بالفن الزنجي ذروته في ذلك الوقت. ومع ذلك، فقد كان يُنظر إلى التراث الشعبي الأفريقي نظرة عنصرية، فهو يربط السود غالبا بالجنس والرقص والوحشية.
في ثلاثينيات القرن الماضي، ظهرت حركة أدبية تفتخر بـ”الزنوجة” والعرق الأسود والثقافة الأفريقية، مثّلها الشاعر والرئيس السنغالي السابق، ليوبولد سيدار سنغور، والكاتب المارتينيكي إيمي سيزير. يقول سنغور إن الزنوجة ليست مسألة عنصرية؛ بل ثقافة، بينما يعتقد سيزير أن التمسك والافتخار بالأصول الأفريقية يعبر عن القبول بـ”مصيرنا كسود”.
وتذكر الكاتبة أن هذا المزيج بين حب الاطلاع على الثقافات الأفريقية، وثورة الأفارقة على النظرة الأوروبية الدونية، في فترة ما بين الحربين العالميتين، جرفته جرائم الحرب العالمية الثانية.
وفي عام 1950، نشرت اليونسكو كتيبا تعلن فيه أن “الإنسانية واحدة”، وأن العرق “أسطورة اجتماعية” تسببت في معاناة لا توصف.