وجّه المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي جون بوبيرو رسالة مفتوحة إلى الرئيس إيمانويل ماكرون بشأن مشروع قانون “تعزيز المبادئ الجمهورية” ومحاربة “الانفصالية”، مطالبا فيها بمراجعة إجراءاته الانتقائية وعدم تفسير العلمانية وفق منظور مناقض للقيم الأساسية التي قامت عليها، وتزامن ذلك مع إصدار المؤرخ رواية جديدة وصفت بأنها “رومانسية” لكنها لا تخلو من نقاش فلسفي وتاريخي عميق.
وتقدم رواية “عواطف غير محتملة”، الصادرة حديثا للمؤرخ الفرنسي، قصة حب بين إميل كومبس بطل الرواية رئيس وزراء فرنسا المتوفى عام 1921، وراهبة كرملية (تنتسب إلى رهبنة إخوة سيدة جبل الكرمل الكاثوليكية التي أُسست في القرن الـ12 في مملكة بيت المقدس الصليبية)، وتتعرض الرواية التي كتبها المؤرخ المتخصص بالعلمانية الفرنسية، لدور كومبس في حقبة الاضطراب التي شهدتها فرنسا مطلع القرن الـ20 بين مؤيدي تقارب الدين مع الدولة والمدافعين عن الفصل بينهما، وهي الحقبة التي شهدت سنّ ما عرف بقانون العلمانية عام 1905، حسب العرض الذي قدمته مجلة “ريفورم” (Reforme).
وينسج المؤلف روايته عبر خيطين متشابكين عن قصتي حب، الأولى قصة روحانية وعاطفية بين الزعيم السياسي والراهبة الأصغر سنا، وتجري الأحداث السياسية المضطربة على التوازي مع القصة العاطفية التي تتكشف ببطء عبر سرد رسائلي طويل، في حين تدور القصة الثانية بين اثنين من الأكاديميين يعملان في معهد بوردو في عصرنا الحالي ويقعان في الحب ويتبادلان الرسائل القصيرة السريعة عبر الإنترنت، وهو ما يعطي لمحة عن الفجوة بين العصور وتغيرات الزمن الحديث في التواصل.
مؤرخ اللائكية
وغير بعيد عن سياق الرواية، وفي الرسالة التي نشرتها صحيفة “نوفيل أوبسرفاتور” (L`Obs) قبل شهر، قال المفكر الفرنسي الذي يُعرف بـ”مؤرخ اللائكية” إنه شعر منذ محادثاته الأولى مع الرئيس الحالي أنه لا يحتاج إلى أن يشرح له معنى اللائكية مثلما فعل مع الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي حين ألّف قبل أكثر من 12 عاما كتابه “تفسير اللائكية للسيد ساركوزي ولمن يكتبون خطاباته”.
لكن التدابير الأخيرة التي أعلنها ماكرون أظهرت -كما يقول بوبيرو- أن الأمور تتجه نحو منحدر خطر يشبه ما حدث في عهد ساركوزي، لذلك فإنه وجد من الضروري كتابة هذه الرسالة حتى “يتوسّل” إلى الرئيس من أجل ألا يتأثر بسياسات ساركوزي، واليمين بوجه عام.
ويقول بوبيرو مخاطبا الرئيس ماكرون “لقد شرحت الخطوط العريضة للفكر الذي ترتكز عليه في خطابين، أحدهما في ميلوز (شمال شرقي فرنسا) في 18 فبراير/شباط، والآخر في مورو في الثاني من أكتوبر/تشرين الثاني. قدمت حينئذ رؤيتك لكيفية التعامل مع التحديات الكبيرة الماثلة أمامنا، وكانت رؤية مختلفة تماما عن “العلمانية الجديدة” (مصطلح صاغه رئيس حزب الجمهوريين الفرنسي فرانسوا باروان) التي يتبنّاها اليمين”.
ولكن الرئيس توقف -حسب رأيه- في منتصف الطريق الذي كان ينبغي أن يسير فيه إلى النهاية من أجل إيقاف مسلسل الهزائم المتتالية التي مُنيت بها الجمهورية في العقود الأخيرة.
ويؤكد بوبيرو أنه يتفق مع الرئيس على أن الانفصالية أمر مرفوض داخل المجتمع، وأن الاختلاف يصبح أمرا خطرا عندما يتعارض مع قيم الجمهورية ويخرج عن إطار التنوع الثقافي والهوياتي الذي ينسجم مع المنظومة العلمانية.
لكنه يعتقد أن إحدى المشكلات الجوهرية في التعامل مع هذه القضية هي الحدود المسموح بها للتنوع والاختلاف داخل المجتمع، وكيفية الحكم بأن ثقافة ما تشكل عامل إثراء أو مؤشرا على نزعة انفصالية تهدد قيم الجمهورية.
والمشكلة الأخرى، وفقا للمفكر الفرنسي، هي أن تلك النزعة الانفصالية قد تكون انعكاسا لفشل عملية الاندماج الثقافي نتيجة السياسات التي سببت كثيرا من البؤس والشقاء لفئات من المجتمع الفرنسي.
ويستغرب بوبيرو أن الرئيس ماكرون لم يجد أي عذر لتلك الفئات المهمشة، ولم يحاول أن يفسّر سبب نزعتها الانفصالية، بيد أنه لم يهاجم الأوساط الأكاديمية، ولم يتهمها أبدا بتهديد قيم الجمهورية عندما قررت أخيرا أن تشكل لجانا لمراقبة الأفكار المخالفة داخل الجامعات.
وكان نحو ألفي باحث قد أدانوا، في رسالة مفتوحة نشرت في صحيفة “لوموند” (Le Monde) الفرنسية، الدعوة إلى “فرض الرقابة على حرية الفكر في الجامعات”، التي وقّعها 100 أستاذ دعما لأفكار وزير التعليم الوطني جان ميشيل بلانكر عن “اليسارية الإسلامية”.
مثال على التناقض
وتابع جون بوبيرو رسالته إلى الرئيس متهما إياه بالتناقض، بسبب رغبته في حظر كل أشكال التعليم خارج المدرسة العمومية من أجل حماية الأطفال من الفكر الانفصالي.
ويقول الكاتب إن الدولة الفرنسية سمحت منذ 1977 بتدريس بعض المواد لعدد من الطلاب في المدارس العمومية، على يد مدرّسين تدفع أجورهم حكومات أجنبية، وهو برنامج أثار الجدل وتمت المطالبة بمراجعته منذ 2003، لكن الرئيس لم يشر إليه بتاتا في سياق حديثه عن حظر التعليم المنزلي.
وحسب رأيه، فإن المسؤولين الفرنسيين لا يتحدثون عن قيم الجمهورية وخطر تقسيم الدولة إلا عندما يتعلق الأمر بالمهاجرين والدين الإسلامي، وهو ما يظهر بوضوح في مشروع حظر التعليم المنزلي، حسب الصحيفة الفرنسية.
ويشدد بوبيرو على ضرورة ألا تتحول اللائكية من احتفاء بـ”العقل” إلى “آلهة” تجعل من فرنسا “الشعب المختار”، وأنه ينبغي التحلي بالواقعية البراغماتية، واستخلاص الدروس من الماضي، إذ احتفظت فرنسا بالأعياد الكاثوليكية مع أنها اختارت فصل الدين عن الدولة. ويضيف أن على فرنسا أن تتخلى عن المنهج الشمولي الذي تكاد تسقط فيه، وأن تعمل على إيجاد الحلول للفجوة التي ما انفكّت تتعمق بين فئات المجتمع، وأن تعامل كل مواطنيها على قدم المساواة.
تعديل المسار
ويعتقد الكاتب أن الطريقة التي يشدد بها ماكرون الخناق على الجمعيات مثيرة للجدل. فوفقا للمادة السادسة من القانون الجديد، ينبغي للجمعيات التزام احترام مبادئ الجمهورية وقيمها، لكن هذه القيم تبدو فضفاضة جدا، ويمكن أن تخفي كثيرا من التفاصيل المسكوت عنها وتشكّل عقبة أمام ممارسة كثير من الحريات.
ومن وجهة نظره، فإن استخدام مصطلح القيم لاستهداف البعض وتجاهل البعض الآخر، قد يؤدي إلى نتائج عكسية ويعرقل عملية الاندماج الثقافي داخل المجتمع، وهو ما أشار إليه الفيلسوف الفرنسي الراحل إميل دوركهايم حين قال إن الاندماج “ضروري لتشكيل المجتمع وتجنب الفوضى، لكن الاندماج الكامل ينقلب ضد المجتمع نفسه ويحوّل مواطنيه ومكوناته إلى أفراد غير فاعلين، وهو ما يؤدي بدوره إلى استنزاف المجتمع وجموده”، حسب صحيفة نوفيل أوبسرفاتور.
ويتابع الكاتب أن مشروع توسيع نطاق التزام الحياد في الوظيفة العمومية سيمنع مزيدا من المسلمات من ارتداء الحجاب في أماكن العمل ويجبرهن على البحث عن وظائف جديدة في أماكن أخرى، وهو مثال آخر على الإجراءات التي قد تأتي بنتائج عكسية.
ويؤكد بوبيرو أن مشروع ماكرون سوف يكرس تحول اللائكية من نظام يقوم على حياد السلطة إلى منظومة تفرض الحياد على المجتمع المدني والأفراد فحسب. ومن ثمّ فإنه يطلب من الرئيس أن يوضح طبيعة هذا التدخل، وأن يُعمل مواجهة خطاب الكراهية عبر الإنترنت ويتخذ إجراءات من شأنها تكريس مبدأ العدالة، مثل إعادة إحياء الهيئة العليا للمساواة ومكافحة التمييز، التي أسسها جاك شيراك وألغاها نيكولا ساركوزي.