من الاستخلاصات التي يمكن للمرء بسهولة ويسر استنتاجها من نتائج الانتخابات النيابية الأميركية السابقة، والتي جرت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2018 من جهة، ومن إرهاصات التحضير والإعداد للانتخابات الرئاسية والنيابية الأميركية القادمة، المقررة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2020، من جهة أخرى، تلك القراءة المتعمقة والتحليل الشامل والرؤية المستقبلية لما طرأ من تحولات على الفكر المهيمن، أو على أقل تقدير الغالب، على “الحزب الديموقراطي” الأميركي، خاصة التغييرات التي جرت على الصعيدين العقائدي والأيديولوجي لهذا الحزب، سواء على مستوى قياداته أو كوادره أو قواعده، منذ الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة التي جرت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2016، والتي شهدت هزيمة المرشحة “الديموقراطية” آنذاك، وزيرة الخارجية وعضو مجلس الشيوخ السابقة، السيدة هيلاري كلينتون.
في انتخابات العام 2016 الرئاسية الأميركية، وداخل صفوف “الحزب الديموقراطي” الأميركي على وجه التحديد، برز على الساحة في مواجهة هيلاري كلينتون، وضمن مرشحي “الديموقراطي” في الانتخابات التمهيدية داخل الحزب، اسم المرشح برني ساندرز، الذي مثل آنذاك بما طرحه من أفكار وما بلوره من برنامج تضمن سياسات وإجراءات مقترحة، طرحاً مغايراً وبديلاً نوعياً، على صعيد المشروع الأيديولوجي، ليس فقط للسيدة كلينتون، بل في واقع الأمر أيضاً لغالبية المرشحين الرئيسيين الباقين للحزب في تلك الانتخابات، والتي أتت في نهاية الأمر بالمرشح الجمهوري ترامب (الرئيس دونالد) إلى قمة السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة، التي تبقى القوة الأعظم حتى الآن في عالم اليوم.
في ذلك الوقت، كان برنامج ساندرز الانتخابي يعتبر بمثابة “برنامج ثوري” من جانب البعض، و”اشتراكي” من جانب البعض الآخر، و”تقدمي” من جانب البعض الثالث، ونظر إليه كثيرون آنذاك، سواء داخل “الحزب الديموقراطي” الأميركي أو خارجه، باعتباره محاولة لإحياء البرنامج الأصلي للرئيس الديموقراطي السابق باراك أوباما في انتخابات العام 2008 الرئاسية، قبل تعديل ذلك البرنامج وتعرضه للكثير من المراجعات التي دفعت به نحو اليمين تحت ضغط اعتبارات وحسابات كثيرة للمرشح أوباما في تلك الفترة، وهو برنامج لم يعد إليه الرئيس السابق خلال خوضه الانتخابات مرشحاً لولاية ثانية في عام 2012، وإن احتفظ ببعض معالمه، مثل مبادرته الخاصة بوضع نظام شامل للتأمين الصحي التي عرفت لاحقاً بنظام “أوباما كير”.
وعلى رغم ذلك التراجع في مراحل سابقة من جانب الرئيس الأميركي السابق (أوباما)، فستظل الحقيقة قائمة، خاصة من جانب تيارات اليسار ويسار الوسط داخل “الحزب الديموقراطي”، بل وحتى من تيارات اليسار ويسار الوسط بصفة عامة خارج الحزب وفي الشارع والمجتمع الأميركي، وعلى وجه الخصوص من جانب النقابات العمالية والمهنية، أنه هو الذي يعود إليه قدر كبير من الفضل في عودة “الحزب الديموقراطي” إلى مسار يميزه بعض الشيء عن “الحزب الجمهوري” ويعطيه هوية فكرية وشكلاً مختلفاً على النحو الذي منحه القدرة على الدفع بأنه يعبر، على الأقل خلال فترة لا يستهان بها من ولايتي رئاسة أوباما، عن الفئات الاجتماعية الوسطى والدنيا على الساحة الأميركية.
المحطة المحورية السابقة في التحول الفكري لـ “الحزب الديموقراطي” خلال زعامة أوباما للدولة والحزب، كانت تلك التي تولى فيها الرئيس الأسبق بيل كلينتون مقاليد القيادة داخل الحزب ثم مقعد رئاسة الولايات المتحدة لولايتين رئاسيتين في تسعينات القرن العشرين، وهي الفترة التي دفع فيها كلينتون “الحزب الديموقراطي” في اتجاه اليمين تحت شعار السعي لتحويله إلى حزب وسط في ظل شعار أهم رفعه (كلينتون) آنذاك، ورفعه معه حليفه في ذلك الوقت زعيم “حزب العمال” البريطاني ورئيس الوزراء آنذاك توني بلير، وهو شعار البحث عن الطريق الثالث، أي البديل عن كل من الاشتراكية والرأسمالية على حد سواء. وثبتت في ما بعد محدودية الصدقية الفكرية لهذا الطرح المسمى بـ “الطريق الثالث”، في الحالتين الأميركية والبريطانية على حد سواء، وكذلك فقدانه ما كان يحظى به من دعم، كان محدوداً أصلاً ثم تناقص بمرور الوقت بسبب تراجع الإنجازات وعدم تحقق الوعود والعجز عن تلبية المطالب بشكل متزايد، سواء في دوائر الطبقة الوسطى ومثقفيها، أو على مستوى المواطن العادي. كما سقط هذا الطرح تماماً في وقت قياسي ووجيز في بقية البلدان التي كانت أصوات فيها تنادي بالاقتداء بأثر الحلف الأنجلو – ساكسوني في هذا المضمار. ولا تصدق هذه العبارة فقط على بلدان في أوروبا، خاصة الغربية والوسطى، بل أيضاً على دول عدة من بلدان الجنوب، بما فيها بلداناً عربية آنذاك، خرج من صفوف أبنائها من يبشرون بتلك الدعوة الفكرية الجديدة، سواء عن فهم أو عن انقياد إلى ما هو جديد فحسب أو عن انبهار بكل من كلينتون وبلير أو أحدهما.
وبعيداً من المزيد من الغوص في الجذور التاريخية البعيدة أو القريبة للتحولات الفكرية لـ “لحزب الديموقراطي”، فإن البارز هو التحولات الفكرية الواضحة التي طرأت منذ انتخابات العام 2016 الرئاسية وحتى اللحظة الراهنة، إذ بينما كان الاتجاه اليميني المدعوم من دوائر رجال المال والأعمال الأميركيين هو الأكثر ثقلاً في “الحزب الديموقراطي”، وهو ما مثلته في تلك الانتخابات هيلاري كلينتون، التي تلقت كل العون من “وول ستريت”، وبينما كان الاتجاه اليساري الذي مثله ساندرز أقرب إلى الأقلية آنذاك في دوائر صنع القرار في الحزب، إذا بالوضع يتغير، بل وتقريباً ينقلب على أعقابه، لنصبح اليوم في وضع يتنافس فيه عدد لا بأس به من المرشحين المقبلين المحتملين لـ “الحزب الديموقراطي” في الانتخابات التمهيدية للانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة (العام 2020)، على تبني الحزمة نفسها من الشعارات والخطط والبرامج والمشروعات التي جسدها برنامج ساندرز في الانتخابات التمهيدية السابقة على اختيار مرشح “الديموقراطي” للانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016.
يعكس ما سبق تحولات فكرية تقدمية داخل “الحزب الديموقراطي” تستلهم النموذج الفكري الذي يمثله ساندرز، والذي طرحه في انتخابات العام 2016، الرئاسية، ويتبناه مجدداً في التحضير للانتخابات داخل “الحزب الديموقراطي” لاختيار مرشح الحزب لانتخابات العام 2020، وهو أمر ينظر إليه البعض، من منظور سياسي يتسم ببعض ضيق الأفق والنظرة، ويتصف بالنظر إلى اللحظة الآنية فقط دون سواها، باعتباره عاملاً مقللاً من فرص نجاح ساندرز في الوصول إلى أن يحظى بصفة مرشح “الحزب الديموقراطي” في انتخابات العام 2020، وذلك في ضوء تبني مرشحين آخرين أيضاً، أصغر سناً منه، مشروعه الفكري ذاته، بينما يعمد هؤلاء إلى تجاهل الحقيقة الأهم والأكثر دلالة، وهي أن ساندرز حقق نجاحاً تاريخياً، وأنجز مهمة تحول جذري سوف يذكره الجميع ويعيدوا الفضل فيه إليه وحده دون غيره. وأعني هنا تحديداً إعادة التوجه اليساري إلى الواجهة في البرنامج المستقبلي لـ “الحزب الديموقراطي”، وهو تحول يتم في مرحلة مفصلية في حياة هذا الحزب الأميركي في القرن الحادي والعشرين، ولا يضاهيه إلا البرنامج الفكري للرئيس السابق أوباما قبل انتخابات العام 2008، إلا أن الأخير خضع لإجراء أوباما ذاته تعديلات ومراجعات وتغييرات عليه، فسرها كثيرون على أنها تراجع من مواقع اليسار للاقتراب من مواقع الوسط، وهو ما تم على أيدي الرئيس السابق، في ضوء حسابات وتقديرات واعتبارات اتسم تعامل أوباما معها باتباع خيار المواءمة والسعي إلى الحلول التوفيقية والحلول الوسط بديلاً عن خيار التمسك بالمواقف والصمود في الخندق والتصدي للتوجهات المضادة، أي باختصار بعيداً من خيار المواجهة.
وفي الختام، علينا ألا نغفل أمرين: الأول، حقيقة أن الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة الأميركية (الديموقراطي والجمهوري) اتسما منذ عقود، خاصة من جهة البرنامج الفكري الخاص بكل منهما، بغلبة التوجه البندولي المتحول ما بين موقع فكري وآخر، ومن مرحلة إلى أخرى، بالطبع في حدود معينة بما تسمح به الهوية التاريخية لكل منهما، بل أحياناً حدثت تلك التحولات في الحقبة التاريخية الواحدة ذاتها، وهو نمط لم يتوقف، بل حدث بشكل متكرر وبصورة تؤكد أنه القاعدة وليس الاستثناء. أما الأمر الثاني، فهو أن هناك من يرى أنه في ضوء التوقعات الغالبة في الداخل الأميركي بأن فرص الرئيس الأميركي “الجمهوري” دونالد ترامب هي الأكبر في الفوز بالانتخابات الرئاسية القادمة، فإن تيارات الوسط واليمين داخل “الحزب الديموقراطي” سوف تتكفل، وحتى بدء مرحلة الإعداد للانتخابات الرئاسية للعام 2024 ، باحتواء التوجهات التقدمية المتعاظمة حالياً وتحجيمها، وإعادة اللحمة إلى جهود بلورة تصور وسطي أو يميني يصبح غالباً على توجهات الحزب الفكرية بحلول مرحلة التحضير لانتخابات العام 2024.
يبقى أن المستقبل هو الحكم الذي سيدلنا على الاتجاه الذي سوف تتحرك التطورات نحوه، سواء في الشهور أو السنوات المقبلة، وهو المؤشر على مدى ما ستتمتع به الفرضيات والاستنتاجات التي طرحناها في ما سبق، بدرجة أو أخرى من درجات الصدقية، إذ سيكون المحك التطورات على الأرض واتجاه حراكها والتفاعلات في ما بينها، والنتائج الجزئية والكلية التي سوف تؤدي إليها تلك التفاعلات. وتبقى مهمة صياغة المشروع الفكري القادر على جذب دعم قطاعات واسعة من المؤيدين والمناصرين المهمة الأكثر صعوبة، ولكن الأكثر أهمية في الوقت ذاته، لمن هو قادر على تصدر الصفوف والقيام بهذه المهمة، لأن مثل هذا البرنامج، من شأنه أن ينفي عن أحد الحزبين الرئيسين التهمة التي كثيراً ما تم توجيهها إليهما معاً، وهي أنهما ليسا حزبين بالمعنى الحقيقي والعلمي للكلمة، بل أنهما أقرب إلى أن يكونا تجمعين لجماعات مصالح مختلفة، وليس بالضرورة متماثلة أو حتى متشابهة فكرياً، بل تجمعها فقط اعتبارات نفعية بحتة.
مفكر وكاتب مصري والمقال من صحيفة “الحياة”
LEAVE A COMMENT