منذ سنوات، تحمل رانيا قطف كاميرتها وتجول في أزقة دمشق القديمة ملتقطة صوراً لمنازل دمشقية تقليديّة، رغبة منها بتوثيق هندستها وهويتها بعدما طال الإهمال عدداً منها ولحقت أضرار جسيمة بعدد آخر خلال سنوات الحرب.
وتقول قطف (35 عاماً) -من داخل منزل أثري يخضع حالياً لعملية ترميم، لوكالة الأنباء الفرنسية “استلهمت فكرتي التوثيقية من مصورين أوروبيين، سارعوا إلى توثيق أبنية في مدنهم خلال الحرب العالمية الثانية، واستطاع مهندسون إعادة بناء أجزاء منها لاحقاً، اعتماداً على وثائق المصورين”.
ورغم تخصّصها بالجامعة الأميركية في بيروت في مجال التغذية، فإن توثيق تراث دمشق بات شغل قطف الشاغل منذ سنوات، خصوصاً بعدما أنشأت على موقع فيسبوك عام 2016 مجموعة “أناس دمشق” (Humans of Damascus) واستقطبت الصفحة نحو 22 ألف مهتم بالتراث الدمشقي وآلاف الصور التي وثقها الأعضاء لمنازلهم الدمشقية.
وترى قطف “التوثيق ليس حكراً على الخبراء” ومن هنا محاولتها جعلت المجموعة “أشبه بكتاب توثيق افتراضي بعدسات من يقطن في هذه المنازل”.
ويتألف البيت الدمشقي عموماً من مدخل ضيق يُسمّى الدهليز، يؤدي إلى فسحة مفتوحة واسعة فيها أشجار عدّة، تتوسطها بحرة دائرية الشكل مكسوّة بالحجر المزخرف.
وعلى الجوانب نوافذ خشبية وأبواب متناظرة للغرف التي عادة ما يكون سقفها عبارة عن أعمدة خشبية مصفوفة قرب بعضها البعض، أو تكسوه زخارف ملونة. وغالباً ما يضمّ كل منزل غرفتين للضيوف، واحدة صيفية وأخرى شتوية.
ومنذ 2011، تحوّل عدد من المنازل إلى مراكز إيواء صغيرة، يسكن في كل منها عائلتان أو أكثر. وباتت الأولوية فيها للسكن، ولو جاء ذلك على حساب تصميمها. واضطرت عائلات كثيرة لتغيير ملامح بعض البيوت كي تستوعب عدداً أكبر من الأشخاص.
تهديد أساسي
استناداً لعوامل عدة بينها صور التقطتها قطف بين 2016 و2017، تتعاون جهات مختلفة حالياً لترميم بيت القوتلي الأثري الذي سكنته عائلة القوتلي الدمشقية العريقة ويتحدّر منها شكري القوتلي الذي تولى الرئاسة مرتين بين العامين 1943 و1958.
داخل المنزل الواسع، الذي يتألف من طابقين وأقبية وباحة، تسجل قطف ملاحظات على دفتر صغير. وتلتقط مزيداً من الصور لكل شبر من الرسومات على جدرانه وسقفه.
وقد تعرّض المنزل عام 2016 لانهيارات بعد تصدّع جدرانه جراء قذائف سقطت في محيطه، عدا عوامل الطقس والإهمال.
وتشرح قطف -التي شاركت عام 2017 بدورة تدريبية في إيطاليا بعنوان “الجرائم ضد الفن والحفاظ على التراث”- كيف أنّه خلال سنوات الحرب “تدمّرت المدن القديمة في حمص وحلب من دون أن تُوثّق”.
وتضيف “خشيت على دمشق القديمة من أن تنال المصير ذاته، فسارعت إلى توثيق تفاصيلها”.
وقد أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) عام 2013 على قائمتها للتراث المهدد بالخطر 6 مواقع سورية بينها المدينة القديمة في كل من دمشق وحلب.
وتعرّضت دمشق القديمة تحديداً لسقوط قذائف منذ اندلاع النزاع، خلال معارك عنيفة على أطراف العاصمة، وإذا كانت الحرب شكّلت سابقاً “التهديد الأساسي لهذه المنازل” فهي اليوم “مهددة بأن تفقد هويتها جراء استثمارها في مشاريع ربحية، أو نتيجة إهمالها ونسيانها بعد هجرة سكانها” وفق قطف.
وقبل حوالى عقدين من اندلاع الحرب، حوّل رائد جبري (61 عاماً) منزل العائلة المتوارث إلى مطعم شعبي، محاولاً قدر الإمكان الحفاظ على هويته.
يقول -لوكالة الأنباء الفرنسية- في الوقت الذي كان يجلس قرب البحرة وسط باحة المنزل “كنا سنخسر البيت بأكمله، إذ كان على وشك الانهيار ويحتاج ترميمه مبالغ طائلة”.
وبعد تحويله مطعماً بداية التسعينيات، مما مكّنه من الحصول على مردود مادي ثابت، تمكّن تدريجاً من ترميمه. وبات مقصداً لرواد دمشق خصوصاً السواح والزوار الأجانب الذين بات يفتقدهم اليوم جراء الحرب.
ويقول المواطن الستيني “البيت الدمشقي ليس حكراً على سكانه، هو معلم سياحي، كان يزوره كل من يقصد دمشق لاكتشاف جماله”.
أسكن في متحف
على عكس أولئك الذين استثمروا منازلهم في مشاريع ربحية أو أهملوها، يتمسّك سمير غضبان (50 سنة) ببيته الدمشقي ويوليه اهتماماً كبيراً “للحفاظ عليه والاعتناء بأدقّ تفاصيله” رغم أن الأمر مكلف مادياً.
يقول غضبان، الذي يحمل شهادة دكتوراه في علم النفس ويعمل بمجال التجارة “أقطن هنا مع زوجتي منذ 12 سنة، المكان ذاته كان سكن الأمير عبد القادر الجزائري” الذي اتخذ من دمشق مقراً له بعدما نفته السلطات الفرنسية خارج الجزائر عام 1855 ثمّ توفي فيها.
ويضيف “سعيت لأن أحافظ على فرادة هذا البيت تكريماً للأشخاص الذين تعاقبوا عليه” لافتاً إلى أنّ بابه مفتوح “لأي زائر يرغب بمشاهدة هذا الفن”.
ويعود تاريخ هذا البيت إلى القرن 19، وتتوسّطه صورة كبيرة للجزائري. ويتألف من باحتين كبيرتين وأرض مكسوة برخام رمادي وحجارة سوداء.
ويختم غضبان بقوله “أشعر أنني أسكن في متحف وليس في منزل (..) لا أستطيع الحياة في شقة عادية بعد الآن”.
المصدر: الجزيرة