كوردستان تدفع ثمن فشل الأحزاب الحاكمة وخلافها مع المركز

فرهاد علاءالدين
في تصريح صادم، قال أحد المشاركين في التظاهرات التي شهدتها مدينة السليمانية يوم ٣ كانون الأول الجاري احتجاجاً على عدم تسديد الرواتب الشهرية وتردي الاوضاع المعيشية، ” لم يدخل جيبي دينار واحد منذ عشرين يوماً وجئت الى التظاهرات متمنيا أن يصيبني الرصاص واموت “. كانت كلمات الرجل وهو في منتصف العمر تعكس حالة اليأس والإحباط التي باتت تخيم على وجوه ونفوس مواطني إقليم كوردستان، جراء الأزمة المالية والاقتصادية والمعيشية الخانقة التي يشهدها الإقليم منذ نحو ست سنوات.

اتسعت دائرة الجدل بين المتخاصمين حول أسباب الازمة المالية، المسؤولون في حكومة الإقليم والأحزاب الحاكمة يضعون اللوم على عاتق حكومات بغداد منذ سنة 2014 عندما تم قطع الموازنة عن الإقليم على خلفية عدم تسليمه واردات النفط المصدر من قبله والإيرادات الاتحادية عبر المنافذ الحدودية، فيما تحمل بغداد حكومة أربيل مسؤولية عدم الالتزام بالاتفاقيات المبرمة والإيفاء بتعهداتها.

وسط تبادل الاتهامات بين الطرفين تبدو الحقيقة غير واضحة، إلا أن المؤكد أن كلا الطرفين يتحملان مسؤولية ما آلت اليه سياستهما كونهما على طرفي نقيض، في ظل غياب الجدية بالبحث عن حلول ناجعة، وافتقارهما للحرص على مصالح وشؤون مئات الآلاف من مواطني الإقليم وعوائلهم. لكن الواضح هنا أن الحزبين الرئيسيين الحاكمين الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني يتحملان الوزر الأكبر من مسؤولية المعاناة التي تسببتها سياستهما لعموم موظفي الإقليم والمتقاعدين، والتي ألقت بظلالها على السوق وحدت من حركته كما أوقفت مشاريع البناء والإعمار وتراجع معدلات النمو والتطور وانتشار ظاهرة البطالة وعودة مستويات الفقر الى حدود خطيرة، والتي دفعت بحشود من الشباب الى المغامرة بالهجرة وطلب اللجوء لدول الجوار واوروبا.

حكومات بغداد المتعاقبة بدءاً من حكومة المالكي والعبادي مرورا بعبد المهدي وانتهاء بالكاظمي تتحمل هي الأخرى جانبا لا يستهان به من تلك المسؤولية، حينما تعاملت مع مواطني الإقليم كأنهم مواطنون في بلد آخر، من دون الالتفات إلى ما آلت إليه أمورهم وتدهور حالتهم لتشكل اليوم برميلا من البارود قابلاً للانفجار في أي لحظة، وتزايدت معاناة المواطن الكوردي بسبب المد والجزر في العلاقات بين المركز والاقليم.

تراجع الحضور في بغداد

اعتقد المسؤول الكوردي انه محصن في الإقليم وان مشاكل المركز لا تعنيه واقتصرت مشاركاته في حل الازمات السياسية والمالية والاجتماعية في المركز لأدنى مستوى. حيث لم تشارك القيادات الكوردية في المساهمة بمناقشة ومعالجة أي أزمة من الأزمات التي عصفت بالمركز ومدن وسط وجنوب العراق، بل انحصرت مشاركاتها أي القيادات الكوردية وعادة ماتكون من الخط الثاني، على مجرد الحضور البروتوكولي لاجتماعات القادة والزعماء التي تعقد بين حين وآخر لمواجهة الأزمات الطارئة، ومن دون أن يكون لها موقف معلن سواء مع أو بالضد.

كما أن كافة قيادات الأحزاب الكوردية لا تتواجد في بغداد على الإطلاق، وزياراتهم للعاصمة لاتتعدى كونها خاطفة ومتباعدة في الوقت والمواضيع التي تهمهم تصب بصالح الإقليم دون الاكتراث لما يحصل في عموم العراق بشكل عام. على سبيل المثال لم يزر رئيس حزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني بغداد الا مرة واحدة منذ اجراء الاستفتاء في سنة ٢٠١٧ وكان ذلك قبل عامين في ٢٢ تشرين الثاني ٢٠١٨. هذا التباعد بين القيادات السياسية العراقية والكوردية أدى الى توسع الهوة بين الطرفين، وتراجع مستوى العلاقات، وفقدان الكورد لدورهم المؤثر في صنع السياسات العامة للعراق عموماً، والمساهمة برسم برامج وخطط التصدي للتحديات ومعالجة الازمات.

من هنا نلاحظ أن الدور الكوردي في إدارة شؤون البلاد أصبح ثانويا، خاصة على صعيد المساهمة في صنع القرار السياسي العراقي، لان الكوردي لم يعد لاعبا اساسيا كما كان عند بدايات تشكل المشهد السياسي والدستوري الحاكم للعراق خلال السنوات الأولى التي أعقبت حرب الإطاحة بالنظام السابق. المطبخ السياسي بالعاصمة بات يؤدي مهامه بعيدا عن الشركاء، وعندما يتم الانتهاء من صياغة سيناريوهات التناول والتصدي والمعالجة يتم إطلاع هؤلاء الشركاء كإسقاط فرض ليس أكثر، بل أحيانا لايتم التشاور معهم أصلا. ولم يعد كثير من ساسة بغداد يكترثون لوجود او عدم وجود الكورد.

ان لعبة المصالح والدفاع عنها مشروعة في عالم السياسة، ولكل لاعب الحق بالسعي لضمان حقوق ومصالح مكونه أو من يمثله، لذلك لا يمكن ان نضع اللوم على غيرنا جراء ما وصلنا اليه قبل ان نلوم انفسنا لتغافلنا عن قصد أو بدون قصد لما كان يجري في بغداد، ولنقل بوضوح وبجرأة أن أغلب ساسة الكورد كانوا لايحبذون المخاطرة بالتواجد في بغداد بسبب الاضطرابات الأمنية مقارنة مع ماتوفره مدنهم من استقرار أمني ورفاهية ورخاء.

إن العزوف عن بغداد ساهم بشكل فعال في إضعاف دور الكورد، ليتحول دورهم من صناع ملوك الى شركاء ثانويين لا يمتلكون أي تأثير على القرار السياسي، وهذا ماتجلى واضحا عند تشكيل حكومة حيدر العبادي ومن بعدها حكومة عادل عبدالمهدي، حيث كان الحضور الكوردي حتى داخل البرلمان ثانويا بامتياز وبدأت جلسة التشكيل من دونهم، حتى أنهم دخلوها متأخرين ولم يؤثر حضورهم على اكمال النصاب من عدمه، وكذلك الحال عند اختيار الوزراء، بل أن الحكومتين قضمت استحقاقات الكورد من الوزارات والهيئات.

وقد يتساءل احدهم عن دور رئيس الجمهورية والوزراء والنواب في مجلس النواب، فيجب التنويه بان الخلافات الكوردية الكوردية في الآونة الأخيرة أدت الى انحسار دور هؤلاء بالرغم من محاولاتهم الحثيثة لتدارك الأمور ومعالجتها ولكن اكثر الأحيان بعد فوات الأوان لان القرار الحزبي يتم اتخاذه في أربيل والسليمانية وفي معظم الاوقات من دون التشاور معهم.

الفساد وسوء الإدارة

إن الفساد المستشري في العراق عموما، يمتد وبشكل مؤثر الى الإقليم، ذلك أن مدرسة الفساد واحدة وجذورها ممتدة الى كل مؤسسات البلاد من أقصاها الى اقصاها، برغم الفارق الكبير بين الفساد في الإقليم والمركز، حيث ان الفساد في المركز مستشرٍ في جميع كيان الدولة ومفاصلها بدعم مباشر أو غير مباشر من الأحزاب والقيادات السياسية، فيما يستشري الفساد في الإقليم على مستوى الحكومة والأحزاب الحاكمة فحسب، أي أن معظم الدوائر الحكومية سواء الخدمية أو الإنتاجية وموظفيها تؤدي مهامها بنزاهة، وتمارس أعمالها بمهنية عالية.

الفساد الرئيسي في الإقليم تمت شرعنته من خلال انشاء شركات تابعة للأحزاب والقيادات السياسية الحاكمة، وتعمل هذه الشركات بموجب قرارات وتسهيلات حكومية، او تشارك الحكومة مشاريعها، على سبيل المثال وليس الحصر، دأبت شركات خاصة في المنافذ الحكومية على اخذ رسوم من كل مركبة حمل تدخل الى العراق، وقد كتب النائب عن كتلة التغير علي حمه صالح في تقرير قدمه لرئيس حكومة الاقليم بانه هناك ١٣ شركة خاصة تابعة للأحزاب تعمل في المنافذ الحدودية وتمارس مهام متعددة، مثلا مطابقة شهادة المنشأ وكل مطابقة تكلف ٧٠٠ دولار، ويقول حمه صالح بان “إيرادات هذه الشركات تصل الى ٦٠ مليون دولار شهرياً في حين بإمكان حكومة الإقليم القيام بعمل هذه الشركات”. ويضيف على سبيل المثال ” تدخل ١٠٠ حاوية من البيض من يوميا دون دفع الرسوم ومجموع إيراداتها تصل الى ٣٦ مليون دولار شهريا”.

يعتقد مراقبون ان إيرادات المنافذ الحدودية في الإقليم تفوق الـ ٢٠٠ مليون دولار شهريا، لو تم احكام قبضة حكومة الإقليم عليها، لكن الفساد والمنافع المادية لبعض القيادات تحول دون ذلك، حيث يتم ادخال المركبات المحمولة بالبضائع خارج الكمارك.

اما سوء الإدارة في الإقليم للموارد والثروات فهذا أيضاً أثر بشكل مباشر في تردي الوضع الاقتصادي في الإقليم، اذ تسيطر المصالح الذاتية للأحزاب والشخصيات على حساب المصلحة العامة، وهذا واضح في قطاع النفط والغاز، حيث تسيطر الشركات التابعة للأحزاب على هذا القطاع وتعمل هذه الشركات بشكل احتكاري، في الوقت الذي تدار هذه الشركات من قبل شخصيات إدارية جيدة تركت بصمات واضحة على الخارطة الاقتصادية، الا ان المساهم الأكبر في الشركات هما الحزبان الحاكمان. ويشوب عمل القطاع النفطي في الإقليم الكثير من الغموض ولا توجد شفافية في الكميات المصدرة والمهربة، بالإضافة الى الفساد المستشري في قطاع المشتقات من استيراد واحتكار والمحصور بين مجموعة قليلة من رجال الاعمال تحت حماية شخصيات حزبية نافذة.

إن نفط الإقليم أصبح مرهونا بيد شركات كبرى مثل روسنفت الروسية التي تمتلك حصة الأسد في أنبوب الإقليم. او
الشركة التركية التي تم توقيع عقد نقل نفط الإقليم معها لمدة خمسين عاماً إلى بندر جيهان. بالإضافة الى القروض التي استلمتها حكومات الإقليم من الشركات العالمية مثل فيتول وروسنفت لسد العجز المالي والتي باتت تثقل كاهل الإقليم وتضعف إيراداته الشهرية.

الإصلاح بات ضرورة ملحة

إن اندلاع وتصاعد حركة التظاهرات والاحتجاجات الصاخبة في السليمانية تختلف هذه المرة من حيث المشاركة، اذا اننا نرى انها ليست محصورة بالشباب الثائر او المدفوع، وانما شاركت فيها جموع من الموظفين والهيئات التعلمية تتراوح اعمارهم بين الخمسين والستين سنة، وهؤلاء لديهم عوائل وابناء بعمر الشباب هم كذلك مشروع جاهز للتظاهر والسخط الشعبي، وأمام صمت الأحزاب الحاكمة وافتقارها لروح المبادرة في وقف تدهور الاوضاع، نرى بأن دائرة التظاهر ستتوسع في قادم الوقت لتشمل أربيل ودهوك، ومما يؤكد اتساع موجة السخط الآن يكمن في ما تشهده بغداد والعراق عموما من انهيار اقتصادي ومالي غير مسبوق بلغ حد عجز الحكومة عن دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين واللجوء الى الاقتراض الداخلي والخارجي.

يجب على الزعامات السياسية الكوردية وفي مقدمتها الأحزاب الثلاث الحاكمة ( البارتي – اليكتي – كوران )، ان تدرك الآن وقبل فوات الآوان، أن التحالفات القديمة مع الأحزاب التقليدية لم تعد تجدي نفعا، وان حكومة بغداد لن تسمع او تكترث للقيادات السياسية الكوردية كثيرا، والقرار المتخذ حول قانون موازنة ٢٠٢١ هو الصرامة تجاه الإقليم ولن يكون بإمكان النواب الكورد الدفاع او تغير بنود الموازنة وتغيير ما فرضته القوى السياسية العراقية. ولهذا السبب، يجب على القيادات الكوردية اجمعها الحضور الى بغداد الأسبوع المقبل والبقاء في بغداد لأسابيع لحين إقرار قانون الموازنة. أن البقاء في أربيل والسليمانية او الزيارات الخاطفة لم تعد بمصلحة الأقليم، يجب بدء حوار جدي مع القيادات السياسية العراقية وتحديد مسار العراق وسط الازمة المالية الخطيرة التي تعصف بالبلاد.

وقبل ذلك على القيادات الكوردية الشروع بإصلاح حكومي حقيقي، ودعم تنفيذ ما جاء في قانون الإصلاح رقم ٢ لسنة ٢٠٢٠ وان تبدأ العملية الإصلاحية لمنع الفساد والهدر في المال العام، لأن المواطن الكوردستاني يجب ان يكون موضع اهتمام الجميع، والمصلحة العليا للمجتمع تقتضي التخلي عن المصالح الذاتية والحزبية والفئوية. لقد أثرت الأحزاب على حساب المال العام، وحان الوقت للتخلي عن هذا الثراء لصالح الشعب.

على القيادات الكوردية أن تدرك جيداً أن المجتمع الدولي لم ولن يقدم الدعم من دون البدء بعملية إصلاح شاملة في الإقليم، والعالم على دراية تامة بما يجري في الإقليم وان كان قد تغاضى في الماضي، فانه لن يغض الطرف مستقبلا. بصراحة لقد سئم المجتمع الدولي من بكاء الإقليم على اطلال المظلومية الكوردية خاصة في عهد الديمقراطية وهم يرون عمليات الفساد تجري على قدم وساق ولم يعد يلتفت لما تقوله القيادات الكوردية اذا لم تبدأ هذه القيادات بتصحيح مسارها والعمل بجدية على خدمة مواطنيها أولا.

* رئيس المجلس الإستشاري العراقي

Related Posts