علي عبدالأمير*
لا يعترف رئيسُ الوزراء العراقي عادل عبد المهدي بهشاشة الدولة العراقية وحسب، بل يقرّ أن “السلمَ الأجتماعيَّ هشٌ هو الآخر”، كما في رسالته المطولة الخميس إلى زعيمه السابق عمّار الحكيم الذي انتقل من المعارضةِ النيابية إلى تحريك الشارع ضد الحكومة.
حيال تلك الهشاشة التي لازمت الدولة العراقية “الديمقراطية” منذ تشكيلها 2005، لا يبدو مرسومُ عبدالمهدي الصادر في الأول من تموز/يوليو الجاري، والقاضي بدمجِ قوات الحشد الشعبي بالكامل في القوات المسلحة الوطنية ضمن مهلةٍ لا تتجاوز نهاية الشهر الجاري، واقعياً وقابلاً للتنفيذ، فقوى الحشد بلغت من البأس والتنظيم والتسليح والنفوذ “بحيث لا يمكن دمجها مع مؤسسات الدولة الأخرى وأنها ستستمر في الظهور كجهاتٍ فاعلة عسكرية واقتصادية وسياسية مستقلة” كما يقول الباحث من أصل عراقي ريناد منصور في مقالة نشرها موقع مجلة “السياسة الخارجية” الأمريكية قبل نحو أسبوع.
عبدالمهدي مع زعيم الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس (يسار)
وتأكيداً لمعنى وجود قوى أكبر من الدولة يسرد كبيرُ الباحثين في “معهد واشنطن” الأمريكي مايكل نايتس المتخصص بالملف العراقي عدداً من الوقائع:
*في 19 حزيران/يونيو، أطلقت ميليشيا مجهولة الهوية صاروخاً نحو قلب قطاع النفط العراقي في محافظة البصرة، حيث سقطت الذخيرة على بُعد مائة ياردة (300 قدم) فقط من منشآت الإقامة التي يستخدمها مهندسون أمريكيون ودوليون يعملون في أكبر حقول النفط في البلاد.
*كان هذا الهجوم الصاروخي هو الثامن على المنشآت المرتبطة بالولايات المتحدة في العراق هذا العام، وجاء مباشرة بعد الضربات على منشآت تدريب التحالف في التاجي والموصل في 17-18 حزيران/يونيو.
*أثّرت هذه الحوادث على الوجود الدبلوماسي المحلي لواشنطن. فلم تُبق السفارة الأمريكية في بغداد والقنصلية الأمريكية في أربيل سوى نصف طاقمهما بعد أن تم سحب جميع الموظفين غير الأساسيين في أوائل أيار/مايو بسبب مخاوف أمنية. وسابقاً، في أيلول/سبتمبر الماضي، كان قد تم إغلاق القنصلية الأمريكية في البصرة بعد أن ضُربت بصواريخ.
*بعد يوم من الضربة في 17 حزيران/يونيو على منشأة التاجي – التي تعرضت لهجوم أيضاً في 1 أيار/مايو – أصدر رئيس الوزراء مجموعة قيود محددة بشكل غير عادي على القوات المسلحة غير الحكومية في العراق، جاء فيها:
1 تمنع اية قوة اجنبية بالعمل او الحركة على الأرض العراقية بدون اذن واتفاق وسيطرة من الحكومة العراقية.
2 تُمنع اية دولة من الاقليم او خارجه من التواجد على الأرض العراقية وممارسة نشاطاتها ضد أي طرف آخر سواء أكان دولة مجاورة أخرى أو أي تواجد أجنبي داخل العراق أو خارجه بدون اتفاق مع الحكومة العراقية.
3 يُمنع عمل أية قوة مسلحة عراقية أو غير عراقية خارج إطار القوات المسلحة العراقية أو خارج إمرة وإشراف القائد العام للقوات المسلحة.
4 تُمنع أية قوة مسلحة تعمل في إطار القوات المسلحة العراقية وتحت إمرة القائد العام للقوات المسلحة من أن تكون لها حركة أو عمليات او مخازن أو صناعات خارج معرفة وإدارة وسيطرة القوات المسلحة العراقية وتحت إشراف القائد العام.
وبعد أربعٍ وعشرين ساعة من الإدلاء بهذا البيان، سقطت صواريخ جديدة في الموصل والبصرة!
تلك الوقائع أكدت بما لا يقبل الشك، ضعفَ الدولةِ العراقية حيال المجموعات المسلحة العاملة خارجها، حتى وإن ظلت تلك المجموعات ترددُ أنها “حمت الدولة من السقوط أمام داعش في صيف 2014 وحررت المدن العراقية تباعاً من سيطرة التنظيم الإرهابي”.
هنا يتساءل الباحث في “معهد تشام هاوس” البريطاني ريناد منصور: “في مرسومه الأخير هل وجدَ عبدالمهدي حلاً لما اعتبر مشكلة مستحيلة؟ وهل ستتخلى المجوعات المسلحة عن أسمائها والانتماءات والمرجعيات السياسية، وبدلاً من ذلك تتبنى انضباط الألوية والكتائب العسكرية في الجيش؟ وهل سوف ستغلق مكاتبها الاقتصادية (معظمها يبتزّ رجالَ الأعمال المحليين والأجانب فضلاً عن كبار موظفي الدولة) ويلتزمون قيادةَ رئيس الوزراء بوصفه القائد العام للقوات المسلحة”؟
هنا يستدرك الباحثُ من أصلٍ عراقي ويقول “على الرغم من أن السياسةَ الجديدةَ تنصُّ على أن قوات الحشد الشعبي تُدمجُ مع الدولة العراقية، لكن الخطرَ قد يكون هو أن الدولةَ ستُخضِع نفسَها للجماعات شبه العسكرية، وليس العكس”.
ويشترك منصور هنا في تحليله وخلاصاته مع ملايين العراقيين ممن شككوا لا بقدرة عبدالمهدي وحسب، بل بقدرة مؤسسات الدولة العراقية العسكرية على اخضاع الحشد، فيكشفُ “في اجتماعاتي مع كبار قادة الحشد على مر السنين (منذ 2014)، كانوا يصرّون دائمًا على أن أحدَ أهم أهدافهم هو الحصولُ على اعترافٍ رسمي من الدولة العراقية. من ناحية أخرى، كانت هناك حوافزٌ مالية مرتبطة باكتساب السيطرة الرسمية على الوزارات والهيئات الحكومية. لذا رأت الجماعاتُ شبهُ العسكريةِ أن الانضمامَ إلى الدولة هو السبيل الواعد نحو كسب الشرعية العامة”.
ردُّ واشنطن على هشاشة عبدالمهدي؟
يوصي الباحثُ مايكل نايتس حيال هشاشة موقفِ رئيس الوزراء عبدالمهدي بقوله “يتعيّن على قادة الولايات المتحدة أن يدركوا أن الضربات الصاروخية المعزولة (الموجهة للمصالح الأمريكية في العراق) لا تتطلب سوى عدد قليل من المقاتلين (أقل من عشرين) لتنفيذها. إذاً من الواقعي أن يستمر العراق في السعي بجهدٍ إلى منع ضرباتٍ من هذا النوع، كما قد يفعل أي مجتمع في مرحلة ما بعد الصراع، والذي تملؤه الجماعات المسلحة وعشرات آلاف الذخائر التي تعود إلى زمن الحرب. يجب على الولايات المتحدة ألا تدع مثل هذه الحوادث أن تقوّض العلاقة الثنائية أو تؤدي إلى مزيد من التخفيضات الدبلوماسية – طالما بإمكان الحكومة العراقية أن تثبت أنها تتخذ خطوات ملموسة لتأكيد سيادتها وتعزيز سيطرتها على الميليشيات”.
إلى غير تلك النصيحة المهادنة الذي اختارها نايتس، يمضي الكاتب والباحث من أصل عراقي، فهو يرى أن قادة الحشد باتوا يدركون أن العديد من العراقيين قد سحبوا دعمهم للميليشيات – وهذا يشمل الشيعة العراقيين. فأثناء القتال ضد “الدولة الإسلامية”، كان العراقيون الشيعة ينظرون إلى قوات الحشد الشعبي كقوةٍ شبه مقدسة، لكن بمجرد انتهاء الحرب، بدأوا ينتقدون تلك القوات “على سبيل المثال، في البصرة، موطن ما يقدر بثلث مقاتلي الحشد، كانت هناك احتجاجات واسعة النطاق ضد مجموعات الحشد ذاتها التي بدأت العمل كدولة موازية. وألقى ناشطون محليون باللوم على الحشد في قتل 20 متظاهراً أو نحو ذلك في 8 و 9 ايلول/سبتمبر 2018”.
وانطلاقاً من معاينة واقعية كهذه، يعتقد منصور أن “السبب الوحيد الأهم وراء دعم القيادة العليا لقوات الحشد في هذه المرحلة للمرسوم الجديد لرئيس الوزراء هو رئيس الوزراء نفسه. فعلى عكس رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، الذي عمل في بعض الأحيان ضد الحشد، يدين المهدي بسلطته للجماعات شبه العسكرية التي دعمت ترشيحه، فهو ليس لديه حزب سياسي يدعمه. ومنذ انتخابه، سعت القيادة السياسية للحشد الممثلة عبر كتلة “الفتح” ، إلى كسب النفوذ داخل مكتب رئيس الوزراء، و أعطى تعيين كبير موظفي مكتب رئيس الوزراء، محمد الهاشمي، والمعروف باسم “أبو جهاد”، للمهندس والحشد حليفًا قويًا في مكتب رئيس الوزراء”.
لم يعد سرأ أن الهدف الرئيسي لقوات الحشد وتكشيلاته هو أن تصبح جزءًا من الدولة كخطوة لتعزيز السلطة والسيطرة على كل الدولة، وبدلاً من من كبح جماح الجماعات شبه العسكرية، يمكن أن يكون قرار مهدي خطوة أخرى في عملية تمكينها وقضم الدولة العراقية شديدة الهشاشة.
*كاتب وصحافي عراقي والمقال عن موقع “حفريات”
LEAVE A COMMENT