إبراهيم أحمد*
بقيت موضوعة الانقلاب العسكري أو الثورة أو التغيير العميق الذي حدث وتواصل حدوثه منذ 14 تموز 1958 دون بحث عميق او تقييم موضوعي ، وصارت نهبا لأحد الرأيين بين مقدس لها يرى التشبث بها وبذكراها تعبيرا عن الوطنية القصوى، وبين مسفه لها يراها الخطيئة الكبرى في تاريخ الجيش العراقي والقوى السياسية التي ساندته أو دفعته إليها. بينما هكذا مسألة خطيرة تقتضي تحليلا عميقا وجادا للوصول إلى فهم صحيح لها ليس من أجل أضاءة زمن طويل مضى اكتنفته الكوارث والنكبات مع قليل من الإنجازات لا تتناسب وثمنها، بل من أجل فهم حاضرنا وايجاد الطرق والمفاتيح للخروج من مآزقه الكبيرة نحو واقع أفضل وحياة تطلع إليها العراقيون منذ ذلك اليوم البعيد ولم يجدوها بل على العكس وجدو نقيضها!
أثار المنشور الذي وضعه الصديق توفيق التميمي حول هذا الموضوع على صفحتى كثيرا من أصدقائي والمشاركين معي على الفيس بوك،فانبرى بعضهم رافضا لاعنا شاتما لي والآخر موافقا مادحا! لم أرد على الشاتمين، بل أبقيت شتائمهم في مكانها، فهي تنم عن طريقة تفكيرهم وتناولهم لحدث كبير صنع مصائرنا جميعا. وتسيء لهم ولا تسيء لي! مسجلا هنا شكري لمن أضاء مداخلتي المقتبسة!
احترم مهنية ومثابرة ودقة الصديق توفيق لكنني على ما اعتقد أن ما نشره كان مقتطعا من حديث شفهي تلفزيوني أجراه معي، فقد جاءت صياغة المنشور سريعة وفيها أخطاء املائية وكتابية . على كل حال أنا لا أتنصل مما ورد فيه وأنا مسؤول عنه وأتحمل تبعات ما جاء فيه واشكر صديقي توفيق إذ أعاد التذكير به فهو قد صدر منذ وقت طويل!
لأقف قليلا عند مصطلحي ثورة أو انقلاب التي ما أن يلصق أحدهما بهذا الحدث الكبير حتى تتغير ملامح السامع سرورا أو غضبا!
الثورة جاءت من ثار ،أو جاش أو اهتاج، أو ماج او انتفض أو اغتلى، أو فار وقيل أن ذكر البقر سمي بالثور لكثرة هيجانه وجيشانه!
بينما الانقلاب كما هو واضح جاء من قلب الشيء رأسا على عقب، حيث يصبح سافله عاليه، وهو وصف ينطبق على الأشياء ومناحي الفيزياء كما يطبق أو يستعمل في السياسة بمعنى التغيير الجذري والتبدل النوعي. محبو 14 تموز يفضلون أن يسموا التغيير السياسي الجذري في ذلك اليوم بالثورة ربما لأن الكلمة ترضى نزعة في النفس تنشد القوة الجبارة والتأجج الدائم والجيشان المقرون بالمجد، ويتحاشون او ينبذون كلمة انقلاب لأنها في رأيهم حدث يقلب الأوضاع وينتهي في حدوده ولا ديمومة له إلا بآثاره، كما هو يوحي بتدهور وخراب ودمار، ومغادرة ما كان أفضل إلى ما هو أسوأ،مما يقتضي مساءلة فاعليه وإدانتهم!
لكنني وجدت في أكثر من مصدر أن ثمة مؤرخين يفضلون تسمية “انقلاب” على اي حدث كبير يغير الأوضاع جذريا فينقلها من التخلف إلى التقدم، ومن الظلم إلى العدل، ومن عهد الاستعباد إلى عهد الحرية والديمقراطية! والثورة الحقيقية هي انقلاب حقيقي يغير الأوضاع جذريا ولا يكتفي بوضع حد فاصل بين عهد وعهد ، أو زمن وزمن ، لكن سمعة كلمة انقلاب عند المهتمين بهذا الشأن من العراقيين تظل سيئة على أي حال واعتقد أن قسطا من ذلك يرجع إلى ضعف أو قلة النقاشات الفكرية المعمقة لهذه الحقبة الخطيرة من تاريخنا!
وتسميتي لما حدث في 14 تموز 1958 بالانقلاب هو ليس عناداً أو مناكفة مع متبني مصطلح الثورة بل هو تعبير عن فهمي لهذا الحدث على أنه كان انقلابا عسكريا في مفهومة وأدواته ومؤسساته وقوانينه التي اتبعت منذ ساعته الأولى، رغم حديثهم عن وجود جبهة شعبية سياسية كانت تقف وراءه ضمت الحزب الشيوعي وحزب البعث والوطني الديمقراطي والاستقلال والحزب الدييمقراطي الكردستاني الذي مثله الحزب الشيوعي بعد ان رفض حزب البعث قبوله عضوا في هذه الجبهة التي سميت بجبهة الاتحاد الوطني مبرراً ذلك أنه حزب انفصالي يضعف الأمة العربية بينما هو حزب وحدوي. انفرط عقد هذه الجبهة حال قيام سلطة العسكر فلا عبد الكريم التفت لها ولا أصحابها طالبوا بدور لها في الحكم بينما كان لها برنامج اقتصادي اجتماعي سياسي تعاهدوا على تنفيذه بعد اسقاط الحكم الملكي ،وشهدنا احتراب اعضائها وصراعهم الدموي الذي جعل العهد منذ بدايته عهد دم واقتتال وصراعات ابعد ما تكون عن قواعد العمل السياسي الحضاري أو الديمقراطي، كان عبد الكريم قاسم قد أدار ظهره لهذه الجبهة التي كانت هي المرجل الشعبي لحركة الجيش،والتي جعلت الناس يستقبلون الانقلاب بالترحيب والاحتضان والرعاية،وهي التي منحته حماية المعسكر الاشتراكي حيث كانت جولات سلام عادل وعامر عبد الله بين موسكو وبكين قبيل الانقلاب جعلته على علم بها وبهوية وميول قادتها. في مذكرات عامر عبد الله يشير إلى أن السوفيت والصينين لم يكون متحمسين لها بل نصحوا بعدم القيام بها ربما لخشية أن تضعهم في مواجهة مع الغرب لكنها حين قامت انبرى خروشيف يدافع ويذود عنها وكأنها وليده الخاص وكانت مناورات الجيش السوفيت في داخل البلاد الكبيرة وخاصة على الحدود التركية جرس انذار لأعضاء حلف بغداد واسطولهم السادس ليتوقفوا عن التدخل .ما كان خروشيف ليفعل ذلك لولا تزكية الشوعيين المسبقة لها! كان من الواضح أن قاسم اكتفى بطلته الباسمة وجاذبيته (كارزماه) لدى الجماهير ولم يفكر برعاية هذه الجبهة وشبكتها التنظيمية الشعبية الهائلة ويكون هو المايسترو لها مهما اعتملت في داخلها من الصراعات الحزبية أو الشخصية. بل دخل في خلافات ومناكفات مع كامل الجادرجي ابرز قادتها ورفض نصيحته بتسليم السلطة للشعب وقواه المدنية بعد فترة انتقالية مناسبة بل عمل أو ساهم في شق حزبه وقرب محمد حديد وتجاهل الجادرجي تماما ثم سجنه لفترة وأخذ ينتقي من هذه الجبهة حزبا أو جهة دون أخرى ، فحاول ارضاء الجانب القومي دون الشيوعي حين استوزر في أول حكومة له فؤاد الركابي القيادي البعثي بينما لم يستوزر شيوعيا من الكادر الرسمي وإن قيل أن وزير الاقتصاد ابراهيم كبة كان شيوعيا أو قريبا من الشيوعيين،ثم استوزر فيما بعد نزيهة الدليمي بعد مطالبات طويلة من الشيوعيين واستقالة الركابي وبدء ابتعاد البعثيين والقوميين عنه وعن حكومته! كانت لعبة قاسم في تقريب حزب أو جهة واستبعاد حزب أو جهة أخرى أولى أخطائة القاتلة وستستمر طيلة فترة حكمه وكأنه يتبنى القاعدة البريطانية المجربة “فرق تسد” والتي أفرزت أخطر وأسوأ النتائج على الشعب والبلاد وعجلت بسقوطه ايضا! من هنا ينبغي البحث عن نزاهة القادة والزعماء لا مما وجدوا في جيوبهم او بيوتهم عند موتهم أو مقتلهم فوفق هذا المعيار عليهم أن يقروا بنزاهة نوري السعيد وفيصل الثاني وعبد الإله ومعظم رجالات ذلك العهد حيث هم ماتوا أو قتلوا وليس في جيوبهم أو بيوتهم أكثر من رواتبهم لقاء عملهم! ومن الأجدر بالنزاهة هم أم قاتلهم الذي أقسم على حمايتهم مع الوطن ومقدراته الأخرى؟ هل الانحراف عن الواجب المحدد بالدفاع عن الوطن ضد العدوان الخارجي إلى مغامرات كبرى لا تعرف نتائجها أو عقباها؛ نزاهة؟ أم هي نزعة خاصة لا تخلو من مطامح في السلطة والشهرة والأمجاد الفارغة؟
قبل الدخول في صلب الموضوع وتفصيلاته أود التوقف عند ملاحظة صديقي حميد الكفائي إذ انتقد أو استغرب قولي بسذاجة الذين أكدوا نزاهة عبد الكريم قاسم وجدارته للحكم مستندين على السفرطاس والدينار والنصف!
كلمة ساذج ليست شتيمة، إنها صفة أو اسم لحالة إنسانية قد تكون عندي أو عند غيري وتتعلق بأمر أو أمور عدة. والكلمة أصلها فارسي، وتلفض بالفارسية (سادج) وتعني الخام أو المادة الأولية!
وأن أكون أنا أو غيري ساذجا في شيء أو أشياء فهو أمر طبيعي ويقتضي الإستازادة في البحث أو الصقل أو الصناعة! وكلنا أحوج ما نكون للصقل والمعرفة وصناعة وعينا خاصة في المواضيع الهامة والحساسة التي نريد بحثها أو الخوض فيها لننتقل من الذهن الساذج الخام إلى الذهن العارف العليم الحكيم المصنوع! فقط أن يكون لدينا الاستعداد لتقبل الرأي الآخر وتبني ما نراه حقيقة أو قريبا من الحقيقة وليس عيبا أن نبدل آراءنا، العيب هو الجمود عليها والتمسك بها وتقديسها رغم تلمسنا لصواب الرأي الآخر وعدالته!
علما أن الساذج في موضوع ما قد يكون عليما خبيرا في موضوع آخر!
وانطلاقا من هذا سأطبق تطور السذاجة عندي، أو تفكيري العام على متابعتي أو معاناتي مع هذا الحدث الكبير بل الهائل والمزلزل الذي حدث في العراق في 14 تموز 1958وانعطف به نوعيا إلى مسار آخر مختلف تماما عما سبقه، وكيف حاولت مغادرة سذاجتي معه إلى مستوى من الوعي قد لايكون مكتملا لكنه يتجه نحو إلمام أكبر وأكثر عمقا وعدلا وموضوعية!
الموضوع طويل وقد قسمته إلى حلقات
سأنشر الحلقة الثانية في الأسبوع القادم!
*كاتب وروائي عراقي
LEAVE A COMMENT