يقول الإمام القرافي المالكي (ت 684هـ/1285م) في ’الذخيرة’: “صنّف الطرطوشي (المالكي ت 520هـ/1126م).. في تحريم جبن الروم كتابا، وهو الذي عليه المحقِّقون؛ فلا ينبغي لمسلم أن يشتري من حانوت فيها شيء منه لأنه يُنجِّس الميزانَ والبائعَ والآنيةَ”. وحتى نفهم لماذا قرر هذا الإمام الكبير الإفتاءَ بحرمة هذا النوع من الجبن؛ ينبغي تذكُّر أن الطرطوشي كان أحد شهود الحروب الصليبية وصراعاتها المريرة التي دامت قرونا في مركز العالم الإسلامي.
إن قصة تحريم “الجبن الرومي” هذه تعود جذورها إلى أيام الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/796م) الذي تردد في الإفتاء بحرمته؛ ففي ’البيان والتحصيل’ لابن رشد الجد المالكي (ت 520هـ/1126م) أن مالكاً سُئل “عن جبن الروم الذي يوجد في بيوتهم، [فـ]ـقال: ما أحب أن أحرِّم حلالا، وأما أن يكرهه رجل في خاصة نفسه فلا بأس بذلك، وأما أن أحرّمه على الناس فلا أدري”!!
ولا تغيب هنا عن الأذهان أجواءُ التدافع الحضاري بين الروم والمسلمين وانعكاس ذلك في مواقف الفقهاء وفي مقدمتهم إمام دار الهجرة مالك، وهو ما يمكن لحظه اليوم في مسلك قادة الرأي الديني والسياسي والثقافي الذين يُشْهِرون سلاح المقاطعة السلمي المدني في وجه البضائع الفرنسية، احتجاجا منهم على دفاع الرئاسة الفرنسية عن إساءة بعض وسائل الإعلام الفرنسية إلى جناب النبي محمد ﷺ، تلك المقاطعة الذي دفعت الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون -وقد أحس بحرارتها تحرق قطاعات واسعة من اقتصاد بلاده- إلى أن يتكلم ويخاطب العالم الإسلامي عبر شاشة “الجزيرة”.
وما بين القديم والجديد في شأن الحروب الاقتصادية؛ نجد بعض التقاطعات والمفارقات التي نحاول أن نبرزها في هذا المقال الذي نفتح فيه ملف ظاهرة المقاطعة الاقتصادية للخصوم عبر التاريخ، ذاكرين أبرز وقائع توظيفها أداة سلمية للتأثير السياسي على الأنظمة الحاكمة، وسلاحا فعالا في كسب جولات المعارك والحروب بين الدول، ومكوِّناً بالغ الأهمية في إدارة العلاقات بين أمم الشرق والغرب، بل وحتى في الفضاء الحضاري الواحد؛ وراصدين دور فقهاء الإسلام ورجال الدين المسيحيين ومفكري السياسة في هذه المعارك الاقتصادية، التي تقوم عبرها دول وتسقط أنظمة وتُنصر قضايا وتُخذل أخرى.
وعيٌ مبكّر
يقول الفقيه الطرطوشي -في كتابه ’سراج الملوك’- مخاطبا وزير الفاطميين بمصر المأمون البطائحي (ت 519هـ/1125م): “أيها الملك من طال عدوانه زال سلطانه، واعلم أن المال قوة السلطان وعمارة المملكة، ولقاحُه الأمنُ ونتاجه العدل، وهو حُسن السلطان ومادة المُلك، والمال أقوى العُدَد على العدو، وهو ذخيرة الملك وحياة الأرض، فمن حقه أن يُؤخَذ من حقه ويوضع في حقه ويمنع من السرف، ولا يؤخذ من الرعية إلا ما فضل عن معاشها ومصالحها، ثم ينفق ذلك في الوجوه التي يعود نفعها عليها، فيا أيها الملك احرص كل الحرص على عمارة الأرضين؛ والسلام”.
ينبئنا الطرطوشي في هذه النصيحة عن فلسلفة المال ودوره -لدى منظري الفكر السياسي الإسلامي ومدوني الآداب السلطانية في حضارتنا- في إقامة الدول وعمران البلدان، كما يشير إلى خطورة استخدام سلاح المال كـ”أقوى العُدَد على العدو”!
وقبل ذلك بقرون؛ تكشف لنا المراسلات التي دارات بين الخليفة الراشد عمر الفاروق (ت 23هـ/645م) ووُلاته على الأمصار في أزمة مجاعة الرمادة سنة 18هـ/640م مدى وعي الخلفاء الراشدين وأعوانهم بقيمة الجغرافيا الاقتصادية لتنمية الدول، وأهمية خطوط المواصلات البرية والبحرية في رفاه الناس وازدهار التجارة، وخطورة إهمال الاهتمام بذلك على مصائر الأمم.
فالإمام الطبري (ت 310هـ/922م) يروي -في تاريخه- أنه حين كتب عمر “إلى أمراء الأمصار [قائلا]: أغيثوا أهل المدينة ومَنْ حولها، فإنه قد بلغ جهدهم”؛ كان من الردود التي جاءته رسالةُ واليه على مصر عمرو بن العاص (ت 43هـ/664م)، وقد ضمنها رؤيته الاقتصادية وبعضا من تاريخ بحار المنطقة، وهو التاجر المكي القرشي الذي خبر الأسواق وارتاد الشام واليمن -قبل الإسلام- في رحلات الصيف والشتاء التجارية.
ووفقا للطبري؛ فقد قال عَمْرو في “جواب كتاب عُمَر في الاستغاثة: إن البحر الشامي (= الأبيض المتوسط) حُفِر لمبعث (= أيام مبعث) رسول الله ﷺ حفيرا، فصَبَّ في بحر العرب (= البحر الأحمر) فسدَّه الروم والقبط؛ فإن أحببت أن يُقوَّم سعر الطعام بالمدينة كسعره بمصر، حَفرتُ له نهرا وبنيت له قناطير؛ فكتب إليه عمر: أن افعل وعجِّل ذلك”!
ولم يكن أهل مصر -وأغلبيتُهم لم تُسْلم بعدُ- ليكتفوا بالتفرج على ذلك؛ فحاولوا إقناع عمرو بالعدول عن مشروعه مستخدمين لغة اقتصادية سياسية ذكية، فقالوا له: “خراجُك زاجٍ (= منتظِم أمره)، وأميرُك راضٍ، وإن تمّ هذا [الحفر] انكسر (= نقَص) الخراج، فكتب إلى عمر بذلك وذكر أن فيه انكسار خراج مصر وخرابها، فكتب إليه عمر: اعمل فيه وعجِّل..، فعالجه عمرو وهو بالقلزم (= البحر الأحمر)، فكان سعر المدينة كسعر مصر، ولم يزد ذلك مصرَ إلا رخاء، ولم يَرَ أهلُ المدينة بعد الرمادة [مجاعة] مثلها، حتى حُبس عنهم البحر مع مقتل عثمان.. فذلّوا وتقاصروا وخشعوا”! فجواب عَمْرو وإصرار عُمَر واعتراض أهل مصر على فتح منافذ بحرية جديدة في بلادهم؛ يبين لنا جانبا من إدراك أطراف الصراعات المبكر لقيمة الملاحة البحرية ورفدها للأنشطة التجارية.
ركيزة عمرانية
ومن أهم الوقائع التاريخية ذات الدلالة العميقة على اعتناء الخلفاء المسلمين بتوظيف عناصر الجغرافيا الاقتصادية قصة اختيار الخليفة العباسي المنصور (ت 158هـ/776م) لموقع عاصمة العباسيين بغداد؛ فقد قرر -بعد مشاورات مع خبراء الطوبوغرافيا في دولته- أن يقيمها على ضفة نهر صغير يُسمّى “الصَّرَاة” ليصلها بنهر الفرات.
وقد شرح له أحد هؤلاء الخبراء -وفق رؤية فنية جمعت أبعاد الجغرافيا الاقتصادية والسياسية- مميزاتِ الموقع المقترح، التي كان أهمها عدم إمكانية خضوع العاصمة لحصار اقتصادي، لارتباطها بأهم طرق تجارة العالم شرقا وغربا من خلال أنهارها المحيطة بها الضامنة لحركة التجارة وانسيابيتها؛ فقال هذا الخبير -طبقا للطبري- مخاطبا المنصور: إنه في هذا الموضع سوف “تجيئك الميرة في السفن من المغرب في الفرات، وتجيئك طرائف (= تُحَف) مصر والشام، وتجيئك الميرة في السفن من الصين والهند والبصرة وواسط في دجلة، وتجيئك الميرة من أرمينية وما اتصل بها.. حتى تصل إلى [نهر] الزّاب، وتجيئك الميرة من الروم وآمد (= اليوم مدينة ديار بكر التركية) والجزيرة [الفراتية] والموصل في دجلة”.
وكما كان توفُّر المال رافدا لقيام الدول وسببا من أسباب دوامها وتمددها؛ فإن نقصه كان أيضا عاملا حاسما في زوال أخرى، ووسيلة للإطاحة بنظم والتغلب على مدن منذ غابر الزمان، وإخضاع حكومات لرغبات من يمتلك أوراق الضغط الاقتصادي طوال القرون.
فقد أخبرنا الفيلسوف المؤرخ مِسْكوَيْه (ت 421هـ/1031م) -في ’تجارب الأمم‘- أثناء رصده للحيل التي كان يقوم بها الإسكندر المقدوني (ت 323 ق.م) في غزواته التوسعية؛ أنه “نزل على مدينة حصينة، فتحصن منه أهلها وعَرَف خبرَها، فأعلِم أنّ فيها من الميرة والعيون المنفجرة كفايتهم، فدسّ تجّارا متنكِّرين وأمرهم بدخول المدينة، وأمدّهم بمال على سبيل التجارة وتقدم إليهم ببيع ما معهم وابتياع ما أمكنهم من الميرة والمغالاة بها. ففعل التجار ذلك، ورحل الإسكندر عنهم، فلم يزل التجار يشترون الميرة إلى أن حصل في أيديهم أكثرُهـ[ـا]، فلما علم الإسكندر ذلك كتب إليهم أن أحرقوا الميرة التي في أيديكم واهربوا، ففعلوا ذلك، وزحف الإسكندر إليها فحاصرهم أياما يسيرة، فأعطوه الطاعة وملك المدينة”.
ومن قصص تلويح الحكّام بالمقاطعة الاقتصادية ومنع تأشيرات الزيارة ما ورد في القرآن الكريم بشأن علاقة نبي الله يوسف عليه السلام بإخوته، حين منَّ الله عليه بالتمكين في مصر وأراد تحقيق رؤياه بلمّ شمل عائلته مستعينا على ذلك بظروف المجاعة التي ضربت حينها بلدهم فلسطين؛ فقد شرط على إخوانه حين وفدوا عليه إحضار أخيهم لأبيهم وشقيقه هو، وإلا فليصبروا على قطعه ميرتهم من دولته وهم في أعوام جدب؛ يقول تعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ، فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُون}.
فالطبري يفسّر الآيات قائلا: “{فإن لم تأتوني به}: بأخيكم من أبيكم، {فلا كيل لكم عندي} يقول: فليس لكم عندي طعام أكيله (= أبيعه) لكم، {ولا تقربون}، يقول: ولا تقربوا بلادي”! ولم يكن تلويح يوسف بالمقاطعة الاقتصادية لإخوته إلا شوقا إلى أبويه وأخيه بعد ابتلاءات السجن. لكن نبيا آخر -جاء بعده بقرون كثيرة- اختُبِر هو وعشيرته الأقربين من أعدائه بالمقاطعة الاجتماعية والحصار الاقتصادي فثبت حتى مكنه الله تعالى، ولم يكن ذلك النبي سوى سيدنا محمد ﷺ في حصار قريش لهم في “شِعْب (= وادٍ صغير بين جبلين) أبي طالب” بمكة المكرمة.
دوافع متناقضة
لكل تلك العوامل؛ كان البعد التجاري والدافع الاقتصادي في كل مراحل الحروب الصليبية حاضرا بقوة، وكان من مكوِّني جيوش الصليبيين جماعات “التجار الذين يبحثون عن أسواق لبضائعهم”، كما اشترطت البندقية الإيطالية على قادة تلك الحروب أن تختص “بنصف الغنائم الحربية” مقابل “أن تمدهم بخمسين سفينة حربية”! هذا رغم “أن البنادقة لم يكن في عزمهم أن يهاجموا مصر؛ فقد كانوا يكسبون منها الملايين في كل عام بما يصدرونه إليها من الخشب والحديد والسلاح، ولم يكونوا يريدون أن يخاطروا بضياع هذه التجارة بالاشتراك في الحرب، أو باقتسامها مع بيزا وجنوى”.
ويحدثنا الرحالة ابن جبير الأندلسي (ت 614هـ/1217م) -في مواضع من رحلته- عن اتساع النشاط التجاري بين المسلمين والصليبيين بعد استيطانهم سواحل الشام، وكيف أن هذا النشاط لم يكن في زمنه متأثرا بأجواء الحروب المتكررة في جغرافيته، في صورة أخرى من صور التعايش الديني حتى ولو كان بين الأعداء بإملاء من عامل توازن الردع. فابن جبير يذكر مثلا أن “تجار النصارى.. لا يُمنَع أحدٌ منهم ولا يُعترَض، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم (= مستعمراتهم)..، وتجار النصارى أيضا يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم، والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم والناس في عافية..، ولا تُعتَرَض الرعايا ولا التجار، فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سِلْمًا أو حرباً”!!
ورغم ذلك؛ لم تكن تجارة الصليبيين مع المسلمين بتلك المرونة لأن رجال الدين المسيحيين كانوا لها بالمرصاد، إذ كثيرا ما أصدر بابوات الفاتيكان قرارات “الحرمان الكنسي من الغفران” بحق التجار المسيحيين الذين يتاجرون مع المسلمين. ويبدو أن ذلك ازدادت وتيرته عقب زمن الرحالة ابن جبير مع توالي فشل الحملات الصليبية الموجهة إلى الشام ومصر منذ الربع الثاني من القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، وصولا إلى توقفها نهائيا -مع نهاية ذيْنك القرنين- نحو خمسة قرون.
فالمستشرق الفرنسي روبار برنشفيك (ت 1411هـ/1990م) يؤكد -في كتابه ’تاريخ إفريقية/تونس في العهد الحفصي‘- أن التجار المسيحيين كثيرا ما خضعوا “لقرارات الحظر الصادرة عن الكنيسة بخصوص إمداد المسلمين بأية مادة من شأنها أن تساعد أولئك ‘الكفار‘ في حربهم ضد أنصار المسيح، ولقد طبقت بعض الدول النصرانية مرارا وتكرارا قرارات الحظر المذكورة الصادرة عن الكنيسة، ولدينا عدة أمثلة من ذلك المنع الصادر عن بعض الحكومات الأوروبية ضد رعاياها الذين يتاجرون مع إفريقية”.
ويفيدنا برنشفيك “أن قرار المنع الأكثر تفصيلا هو ذلك الصادر عن ملك أرغون خايمي الأول (ت 675هـ/1276م) ضد إفريقية؛ ففي 12 أغسطس/آب 1274م (= 673هـ) ذَكَّر الملكُ القطلونيين -الذين رخّص لهم في التحول إلى تونس- بالقرار الذي اتخذه في برشلونة.. بخصوص منع إمداد المسلمين بالمواد التالية: الأسلحة والحديد والخشب والقمح والشعير والذرة البيضاء والدخن والفول ودقيق كل الحبوب وحبال القنب، أو غير ذلك من المواد الصالحة لصنع حبال السفن والرصاص”.
وتذكرنا قائمة هذه السلع الممنوعة بما تُصْدره اليوم القوى الدولية العظمى من قوائم حظر تجاري تستهدف إضعاف اقتصاد “الدول المارقة” لإخضاعها لسياسات ومواقف معينة!! ويضيف روبار أن ملكا أرغونياً آخر هو خايمي الثاني (ت 727هـ/1327م) أصدر قرارا مماثلا سنة 720هـ/1320م يمنع التجارة مع أهالي تلمسان غربي الجزائر.
حظر “مقدّس”
ولإقناع المسيحيين بوجوب المقاطعة الاقتصادية للمسلمين وسلاطينهم؛ يعتني تورسيللو بتفصيل “الأسباب المسوغة لمنع أي مسيحي من شراء أية بضائع مجلوبة من البلدان الخاضعة للسلطان مهما كانت الطرق التي جاءت بها”! ولم يكتف بانتهاج الأسلوب الإقناعي بل مزجه بالمنزع التخويفي حين جعل أحد فصول كتابه جوابا لسؤال: “لما ذا يتوجب على جميع المسيحيين مطاردة المخالفين لأوامر الكنيسة في هذا المجال في كل مكان، وليس فقط في البحر بل وفي البر”؟
وفي الأخير شرَح واضعُ خطة المقاطعة الاقتصادية الشاملة للعالم الإسلامي “العقوباتِ المتوجب إنزالها بالأمراء وبحكام المناطق وبالجماعات التي لا تلتزم بهذه الإجراءات فتستقبل تلك البضائع في مراسيها أو في أراضيها”، وانتقل من تقنين العقوبات إلى “مراقبة البحر وحراسته وكيفية تأهيل الجهاز الأمني الأول للمسيحيين -أي الجيش- للحرب، ومقدار التكاليف” المترتبة على ذلك.
ولفت تورسيللو انتباه مطالعي خطته إلى أن “الشخص الذي سوف تتولى كنيسة الرب المقدسة الأمر بتعيينه قائدا قد يتمكن من أن يوجب على المسلمين القاطنين في تلك المناطق الامتناعَ عن تصدير أو استيراد أية سلعة من الأراضي التابعة للسلطان” المسلم! فالمحاصرة الصليبية هنا لم تعد مقتصرة على منع أتباع الكنيسة من استيراد بضائع المسلمين، وإنما صارت تشمل منع المسلمين من استيراد بضائعهم “الحلال”!!
ولئن كانت هذه الخطة الصليبية قُدِّمتْ للبابا وتأمَّلها وأمر بدراسة إمكانية تنفيذها؛ فإن ثمة قرارات بـ”الحرمان الكنسي” من “الغفران المسيحي” صدرت من جهة البابوات أنفسهم، تلك القرارات التي تكاثرت عقب استعادة عكّا التي أظهرت استحالة نجاح الحملات الصليبية العسكرية، وفتحت الطريق لممارسة أسلحة المقاطعة الاقتصادية باعتبارها “أضعف الإيمان”، لاسيما مع ازدهار التبادل التجاري بين البلدان الإسلامية والدول/المدن التجارية الأوروبية مثل البندقية وجنوى.
وقد لخّص لنا الدكتور العراقي إيلاف عاصم مصطفى -في بحثه ’دوْرُ البابوية والقرصنة في شل حركة التجارة الشرقية في البحر الأبيض المتوسط 1292-1498م’ (= 691-803هـ)- أشهرَ القرارات البابوية المتعلقة بمقاطعة المسلمين تجاريا؛ وذلك بدءا من عهد “البابا نيقولا الرابع (1288-1292م) الذي عمل على قطع أي علاقة تجارية بين تجار مصر وتجار البحر الأبيض المتوسط، وبعدها جاء البابا بونيفاس الحادي عشر (1303-1306م) الذي عمل على إصدار قرارات تفرّق بين المنتوجات المصدرة إلى مصر، مثل المنسوجات مقابل الفلفل الذي يحتاجه الأوروبيون في فصول الشتاء القارس”.
ويذكر الدكتور إيلاف أن “البابا كلمنت الخامس (1305-1314م) أصدر قرارا بمنع إرسال كل السلع إلى مصر سواء كانت تجارية أو عسكرية، ومن يخالف ذلك يتعرض لأشد أنواع الحرمان الكنسي في ذلك العصر”، كما “أمر البابا يوحنا الحادي والعشرون (1316-1334م) ملكَ قبرص هيو الرابع (1301-1325م) عام 1323م بقطع كل الطرق التجارية في البحر المتوسط أمام أي سفينة تحاول الاتجار مع المصريين والدولة المملوكية، وذلك بإعطائهم حق القرصنة”.
ووفقا لما يستخلصه المستشرق برنشفيك؛ فإن الثابت الأهمَّ في قرارات “الحرمان البابوي” هو أن التجار والملوك لم يلتزموا بها في معظم الأحيان، إذ “كانت الدول النصرانية تتردد في مخالفة تلك القرارات، من ذلك مثلا أن جنوى حين أرادت 1452م (856هـ) توجيه بعض الأسلحة إلى تونس رأت من واجبها أن تسترخص البابا”، أي تطلب منه ترخيص ذلك.
قرارات مهدرة
ويفيدنا ديورانت بضخامة الأنشطة التجارية لمدينة جنوى الإيطالية وتنوّع علاقاتها الاقتصادية؛ فيقول إن “أسطول جنوى التجاري يتألف من مئتيْ سفينة عليها عشرون ألفا من البحارة”، وأنها كانت “تتَّجر بكامل حريتها مع بلاد المسلمين، كما تتَّجر معها البندقية وبيزا وإسبانيا..؛ وكانت كثير من هذه المدن الإيطالية تبيع الأسلحة للمسلمين في أيام الحروب الصليبية، وكان البابوات الأقوياء أمثال إنّوسنت الثالث (ت 613هـ/1216م) ينددون بالتجارة أياً كانت مع المسلمين”!!
ثم يوضح ديورانت -بأسلوب شاعري- مدى احترام التجار المسيحيين لتلك القرارات البابوات؛ فيعلق قائلا: “ولكن الذهب كان أقوى أثراً من الدِّين أو الدم المُراق، ولهذا ظلت «التجارة المحرَّمة» تجري في مجراها العادي”! ثم يختم بقوله: “إن أعظم البابوات شأناً وأقواهم سلطاناً لم يستطع أن يجعل صوته أعلى من رنين الذهب”!!
ولم يكن التلويح بالعقوبات الاقتصادية لحماية مصالح أوروبا المسيحية مقتصرا على البابوات؛ فها هو المفكر السياسي الفرنسي بيير ديبوا (ت بعد 721هـ/1321م) -وهو للمفارقة أحد المنظِّرين المبكرين لانفصال الدولة الفرنسية عن التبعية للكنيسة والبابوات- نجده يطالب “في رسالة عن استرداد الأرض المقدسة” باعتماد سلاح المقاطعة ضد الأعداء. ووفقا لديورانت؛ فإن ديبوا رأى أن “كل أوروبا يجب تتَّحد تحت لواء ملك فرنسا باعتباره إمبراطورا يتخذ عاصمته في القسطنطينية، وأن تكون هذه قلعة تناهض الإسلام..، وأن تُعلَن مقاطعة اقتصادية لكل أمة مسيحية تبدأ الحرب ضد أمة مسيحية أخرى”.
ولم يكن التسامح الذي اتبعه التجار المسيحيون بحثا عن الثراء والربح منسحبا على القادة العسكريين في معاركهم الرامية للاستيلاء على المدن الإسلامية واحتلالها؛ فمؤرخو يوميات الحروب الصليبية يسجلون بدقة وقائع اتخاذ هؤلاء القادة أداة الحصار الاقتصادي رديفا لنظيره العسكري في نكايتهم بالمسلمين. فالمؤرخ ابن الأثير يرصد في أحداث سنة 429هـ/1039م أن ملك الأبخاز في حصاره لأهل مدينة تفليس أقام “عليهم محاصرا ومضيقا، فنفدت الأقوات وانقطعت الميرة، فأنفذ أهلها إلى أذربيجان يستنفرون المسلمين ويسألونهم إعانتهم”.
وهو الأمر الذي اتبعه الإفرنج الصليبيون بعد ذلك في حالات كثيرة، منها أنهم عندما احتلوا أنطاكية حاصر ملكها الصليبي “حصن الأثارب” الذي هو اليوم بلدة “الأتارب” الواقعة غربي مدينة حلب السورية، فجمع سنة 504هـ/1110م “عساكرَه من الفرنج.. وسار نحو حصن الأثارب.. وحصره ومنع عنه الميرة، فضاق الأمر على مَنْ به من المسلمين” حتى استسلموا لعدوهم الصليبي، فـ”ملك الحصنَ قهرا وعنوة، وقتل من أهله ألفيْ رجل، وسبى وأسر الباقين”؛ حسب رواية لابن الأثير.
وكان الحصار الاقتصادي المرير الذي فرضه الصليبيون على المدن والثغور الإسلامية مدعاة أحينا لاتباع أهلها حيلا طريفة لكسره؛ ومن ذلك ما ما يذكره ابن شداد الموصلي (ت 632هـ/1234م) -في ’النوادر السلطانية’- ضمن أحداث سنة 585هـ/1189م، من أن “الإفرنج.. أداروا مراكبهم حول عكا حراسة لها من أن يدخلها مراكب المسلمين، وكانت قد اشتدت حاجة من فيها إلى الطعام والميرة فركب في بطسة (= سفينة) بيروت جماعة من المسلمين وتزيَّوْا بزِيّ الإفرنج حتى [إنهم] حلقوا لحاهم ووضعوا الخنازير على سطح البطسة بحيث تُرى من بُعد وعلّقوا الصلبان، وجاءوا قاصدين البلد.. حتى دخلت ميناء البلد..، وكان فرحاً عظيماً فإن الحاجة كانت قد أخذت من أهل البلد”.
وفي المقابل؛ تحدثنا كتب التاريخ عن عشرات الوقائع التي خضع فيها الصليبيون لحصار اقتصادي بحري أجبرهم أحيانا كثيرة على الانسحاب من أراضي المسلمين. ومن ذلك ما يذكره المؤرخ المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في ‘المواعظ والاعتبار‘- قائلا إنه في سنة 648هـ/1250م “قدِم الأسطول الإسلامي من جهة المنصورة [شمالي مصر]، وأحاط بالفرنج [بدمياط] فظفر باثنين وخمسين مركبا للفرنج، وقتل وأسر منهم نحو ألف رجل، فانقطعت الميرة عن الفرنج واشتد عندهم الغلاء وصاروا محصورين..، فوهنت قوة الفرنج وتزايد الغلاء عندهم، وشرعوا في طلب الهدنة من المسلمين على أن يسلموا دمياط”.
سياقات مؤثّرة
وإذا كنا ركزنا في استعراض فتاوى المقاطعة الاقتصادية للعدو على المذهب المالكي فمردّ ذلك أن فقهاءه كانوا -بحكم جغرافية بلدانهم- على خطوط تماس دائم مع الصليبيين وعموم المسيحيين الغربيين في الأندلس وشمال أفريقيا، وحتى في ثغور الشام ومصر كالإسكندرية. وقد كان منطلقهم الأساسي لأغلب فتاوى المقاطعة الاقتصادية هو قول الإمام مالك الوارد في ’المدونة’ للإمام سحنون (ت 240هـ/855م): “أمّا كلُّ ما هو قوة على أهل الإسلام مما يتقوَّوْن به في حروبهم من كُراع (= الخيل والإبل) أو سلاح أو خُرْثِيٍّ (= أثاث البيوت)، أو شيئا مما يُعْلَم أنه قوة في الحرب من نحاس أو غيره؛ فإنهم لا يباعون ذلك”.
وعلى خُطى فتاوى الإمام مالك تلك سار أتباعه في الغرب الإسلامي مثل الفقيه عبد الحميد الصائغ القيرواني (ت 486هـ/1093م) الذي عايش -آخرَ عمره- بداياتِ هجمات الصليبيين على أطراف العالم الإسلامي، حيث استولوا على نصف رقعة الأندلس بسقوط طليطلة سنة 478هـ/1086م، وانتزعوا السيادة على كامل جزيرة صقلية سنة 484هـ/1091م، ثم رأى تجمُّعَ غيوم هذه الهجمات في الأفق وهي توشك أن تتجه -بُعيد وفاته- إلى سواحل الشام غزوا صليبيا استيطانيا لا يرحم.
وبالنظر إلى تلك السياقات الظرفية الخطيرة؛ يمكن فهم موقف الإمام الصائغ القيرواني حين أفتى بعدم جواز الاتجار بالطعام وغيره مع الأعداء، إذا كان الاتجار “يقويهم على محاربة المسلمين”، ويجنون منه “أموالا عظيمة”، وذلك لأن الأعداء كانوا “في أيامه يتقوَّوْن بما يصل إليهم من الأموال على أمور تعود بضرر المسلمين”؛ وفقا للإمام الونشريسي (ت 914هـ/1509م) في ’المعيار المُعْرِب’.
وفي ظل تمدد الممالك المسيحية في الجغرافيا الإسلامية بالأندلس؛ وسّع ابن رشد الجد فتواه بمنع الاتجار مع الأوروبيين مقترحا آليات عملية لمراقبة تنفيذ فتواه تلك؛ فرأى أنه “واجب على والي المسلمين أن يمنع [رعيته] من الدخول إلى أرض الحرب للتجارة، ويضع المراصد في الطرق والمسالح (= دوريات الحراسة) لذلك حتى لا يجد أحدٌ السبيلَ إلى ذلك، لاسيما إن خشي أن يُحمَل إليهم ما لا يَحِلُّ بيعُه منهم مما هو قوةٌ على أهل الإسلام لاستعانتهم به في حروبهم”.
ويندرج في ضغوط واقع التّماس والمواجهات بين المسلمين والمسيحيين في الغرب الإسلامي إبرامُ سلطان المغرب أبي الحسن المريني (ت 753هـ/1352م) في “سنة 739/1339م معاهدة سياسية تجارية في تلمسان مع وفد مملكة ميورقة (= إحدى الجزر الأربع الواقعة قبالة الساحل الشرقي للأندلس)، وقد سمح هذا الاتفاق لرعايا ميورقة بالتجارة في المغرب، ولكن منع عليهم أن يصدّروا منه القمح والسلاح والخيل والجلود المُمَلَّحة والمدبوغة”؛ وفقا للمؤرخ المغربي محمد المنوني (ت 1420هـ/1999م) في كتابه ‘ورقات من حضارة المرينيين‘.
ومن ذلك أيضا ما كان يتخذه سلاطين مصر من قرارات تفرض حظرا تجاريا على تصدير سلع معينة إلى الممالك الأوروبية؛ فالمؤرخ المقريزي يفيدنا -في كتابه ‘السلوك‘- بأنه في سنة 838هـ/1435م “مُنع التجارُ بالإسكندرية من بيع البهار (= التوابل) على الفرنج فأضرهم ذلك”. وفي سنة 1120هـ/1709م صدر في القاهرة أمرٌ بـ”ألا يُباع شيء من قسم الحيوانات والقهوة إلى جنس الإفرنج”! طبقا للمؤرخ المصري الجبرتي (ت 1237هـ/1825م) في ‘عجائب الآثار‘.
المصدر : الجزيرة