بدفاع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن نشر بعض وسائل إعلام بلاده الرسومَ المسيئةَ إلى رسول الإسلام محمد ﷺ واعتباره ذلك من مقتضيات الهُوِّيَّة العلمانية الفرنسية، رغم مشاعر الاستياء وموجات الاعتراض التي اجتاحت العالم الإسلامي وكان في طليعتها مسلمو فرنسا؛ يُصبح الأمرُ مجدَّدا حافزا للتأمل في قيم التعايش والتعدد داخل فضاء الثقافة الغربية ولكن في ضوء خبرتنا الحضارية وداخل مراكزها التاريخية، لنرى طبيعة القيم الحاكمة لأسس العيش المشترك بين مكوِّناتها المختلفة من مِلَل ونِحَل وطوائف؟ وكيف كانت تمضي العلاقات داخل المجال الإسلامي بين تلك المكونات؟
والحق أنه منذ “دستور المدينة” النبوي وحتى “النظام المِلِّي” العثماني؛ يرى المتأمل المُنْصِف أن احترام التعدد وإتاحة خيار التدبير الذاتي لمكونات الأمة كانا أهم القيم الكلية الهادية طوال تاريخ التجربة الإسلامية، فقد كانت الطوائف الدينية والمذهبية تدير شأنها الخاص بحرية كاملة داخل نظام سياسي رحب، يسمح حتى بحرية التقاضي وخصوصية التعليم والسلوك الديني لكل فئة تبعا لما تدين به، كما كان المجال العام الإسلامي يسمح بحضور المختلفين عنه دينيا في أشد الأحوال خصوصية مثل صلوات الاستسقاء التي هي ممارسة دينية خاصة وخالصة، ناهيك عن مناشط المجال السياسي العام كمظاهرات الاحتجاج المشتركة ضد الطغيان التي كانت تُشْهَر فيها الكتب المقدسة لكافة الطوائف!!
إننا لا نزعم أن المثالية النقية واكبت كل تفاصيل تاريخ التعايش دون كدر أو حيْف، فلا يقول بهذا قارئ منصف للتاريخ بما هو سيرة بشر من طباعهم التظالم؛ ولكن لحظة الاختلال في تطبيق القواعد -إن وقعت- كانت تُعتَبر خروجا مؤقتا ومعزولا ومدانا على مبادئ التعددية والرحابة الراسخة التي ظل الجميع يَحتكم إليها، كما أن أوجه المظالم كانت تشمل الجميع وتمارس من الجميع، وإن بنِسَب متفاوتة في الحالتين.
ففي مقابل القاعدة القرآنية التي سار عليها المسلمون طوال تاريخهم: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ}، وما تقضي به من إقرار كل أمة على ذوقها في المطعم، ثم جعْل ذلك الذوق الخاصّ عاملا مشتركا معزِّزا للتعايش بين المختلفين؛ لا يسعُ المرءَ إلا أن يندهش حينما يسمع وزير الداخلية الفرنسي جيرالد ديرمانان وهو ينتقد تخصيص أماكن لبيع أطعمة “الحلال” في بلاده معتبرا إياها “منتجاتٍ للفصْل المجتمعي”، وكذلك التنديد الرسمي الفرنسي ببعض أنماط حياة المسلمين مثل حجاب المرأة، وهي الخصوصية المحصَّنة قانونًا لغير المسلمين في الفقه الإسلامي الذي يوفر لهم كل الضمانات لاحترام خصوصياتهم في مطاعمهم ومشاربهم وعباداتهم.
وفي هذا المقال؛ سنستعرض -انطلاقا من مواريث التجربة التاريخية الإسلامية- مناسبات ومواقف وحّدت فيها أطرافَ “الجماعة الوطنية” أطيافاً وطوائفَ لحظاتُ الفرح والحزن، لنرى كيف تعايش الجميع أحيانا كثيرة متراحمين ومتلاحمين، فجمعتهم دروب الحياة من محاريب العلم إلى دواليب الدولة، وضمتهم مناسبات المجتمع في وليمة عرس أو جنازة شخصية ذات شأن علمي أو مجتمعي، أو وحّد موقفَهم نشاطٌ سلمي أو حربي رفعاً لشكوى طغيان محلي أو دفعاً لبلوى عدوان أجنبي، حاملين كتبهم المقدسة ورموزهم الدينية في وئام وسلام.. ودون نكير أو استغراب!!
سوابق مؤسِّسة
جاءت رسالة الإسلام -منذ يومها الأول- كونية الخطاب عالمية الدعوة، وسرعان ما أصبحت المدينة عاصمة لدولة الرسول ﷺ المتعددة الشعوب والعقائد، إذ الناسُ فيها كما جاء في ‘صحيح البخاري‘: “أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود”! ثم كان إعلان الرسول ﷺ -بوصفه “إمامَ الأمَّة والمنفرد بالرئاسة الدينية والدنيوية” وفق تعبير الإمام الباجي (ت 474هـ/1081م) في كتابه ‘المنتقَى‘- ‘صحيفة المدينة‘، أي “دستور المدينة” الذي وضع أسس تعايش مشترك صارت بها ساكنةُ هذه المدينة/الدولة “أمّةً من دون الناس”، تبعاً لمبدأ المواطنة لا الديانة أو العِرق.
وقد وضع الرسول ﷺ أسس التعايش السمح بين مكونات “الوطن” الجديد، تمثُّلا للتوجيهات القرآنية عَقَديا ومجتمعيا: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} و{لَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}؛ وطبق النبي ﷺ ذلك في سنته العملية؛ فكان يزور مرضى اليهود (صحيح البخاري)، ويقوم احتراما لجنائزهم (صحيح البخاري)، ويعاملهم ماليا حتى إنه اقترض من تاجر يهودي فتُوفي ﷺ ودرعه مرهونة لديه (صحيح البخاري).
بل إنه سمح لضيوفه المسيحيين بإقامة شعائرهم داخل المسجد النبوي؛ فقد ذكر الإمام ابن القيم (ت 751هـ/1350م) -في ‘أحكام أهل الذمة‘- أنه “صحّ عن النبي ﷺ أنه أنزل وفد نصارى نجران (سنة 9هـ/631م وعددهم 14 رجلا) في مسجده وحانت صلاتهم فصلوا فيه”، وأنه “يؤخذ من هذه القصة أمور منها: جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين”. وأرشد ﷺ صحابته إلى كيفية الدعاء لـ”أهل الكتاب” مكافأة لمعروف يسدونه إليهم؛ فقد أسند الإمام الذهبي (ت 749هـ/1348م) -في ‘تاريخ الإسلام‘- إلى ابن عمر أن النبي ﷺ قال: “إذا دعوتم لأحد من اليهود والنصارى فقولوا: أكثر الله مالك وولدك”.
وعلى خُطى هذا الهدْي النبوي الحنيف؛ سار الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان من منصفي المسلمين وغيرهم من أبناء الوطن الإسلامي، طوال الحقب التي تمتعت فيها الأمة بعافيتها الفكرية وأريحيتها الحضارية؛ فكان قادة الفتوح الإسلامية يعطون لأصحاب الأرض المفتوحة “الأمان لأنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، لا ينتقص شيء من ذلك ولا يساكنهم أحد من غير ملتهم”. وكان هناك تاريخيا “قاضي النصارى” و”قاضي قضاة اليهود” الذي يسمونه اصطلاحا “الناجد”.
ويحدثنا الإمام ابن كثير (ت 774هـ/1373م) -في ‘البداية والنهاية‘- عن أن المسلمين والمسيحيين اشتركوا في دمشق مدة سبعة عقود “معْبداً” واحدا لتأدية صلواتهم، فكان نصفه كنيسة ونصفه الآخر مسجدا، و”كان المسلمون والنصارى يدخلون هذا المعبد من باب واحد…، فينصرف النصارى إلى جهة الغرب إلى كنيستهم، ويأخذ المسلمون يمْنةً إلى مسجدهم”. وهذا “المعبد” هو الذي صار فيما بعد مسجدا خالصا للمسلمين حين تراضى الفريقان على ذلك سنة 86هـ/705م، وعُرف تاريخيا وحتى الآن بـ”الجامع الأموي”.
ومع انتكاسة المد القيمي لدى المسلمين أواخر القرن الثاني؛ اختلّ كثير من موازين العدل والفضل، وشاع التظالم المجتمعي تحت وطأة الفتن السياسية والأزمات الاجتماعية وتمزق النسيج الداخلي. ثم عمّق ذلك كلَّه ما استجدّ مع مطلع القرن الرابع من عوامل أجنبية تمثلت في التهديدات الخارجية للعالم الإسلامي بمشارقه ومغاربه، جرّاء هجمات الروم البيزنطيين وحملات الصليبيين الفرنجة وحروب المسيحيين بالأندلس؛ وقد ورُبط أحيانا كثيرة بين تلك التهديدات وأبناء المكوّن غير المسلم داخل المنطقة الإسلامية التي تضررت منها.
تلمذة متبادلة
لعل من أوائل مظاهر التعايش الإيجابي بين المسلمين وغيرهم الأخذَ المتبادل للعلوم والمعارف الذي تواصل عبر حقب التاريخ الإسلامي؛ ففي صدر الإسلام تلقّى كثير من المسلمين عن أحبار اليهودية والمسيحية معارف مختلفة مما لا يتعارض مع تعاليم الإسلام وحقائقه. ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) -في ‘تهذيب التهذيب‘- من أن الإمام المفسِّر مقاتل بن سليمان البلخي (ت 150هـ/768م) كان “يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم”، ورغم ما قيل في مقاتل جَرحاً حديثيا فإن آراءه في التفسير لا يخلو منها أيٌّ من كُتب التفسير المعتمَدة لدى علماء المسلمين!
كما كان إمام المغازي محمد بن إسحق (ت 151هـ/769م) “يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم في كتبه ‘أهل العلم الأول‘”؛ وفقا للنديم (ت 384هـ/1047م) في ‘الفهرست‘. ويفيدنا الطبري (ت 310هـ/922م) -في تاريخه- بأنه لما أصدر الخليفة العباسي المتوكل (ت 247هـ/861م) سنة 235هـ/849م قراراته التمييزية بحق غير المسلمين كان منها أنه “نهى أن يتعلَّم أولادُهم في كتاتيب المسلمين و[أمر] ألا يعلِّمَهم مسلم”. ويدل هذا على أن جميع أصحاب الديانات كانوا يشتركون في أماكن التعليم.
ويحدثنا ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) -في ‘وفيات الأعيان‘- أن الطبيب المسيحي المرموق يحيى بن جزلة (ت 493هـ/1100م) “كان يقرأ على أبي علي ابن الوليد المعتزلي (ت 478هـ/1085م) ويلازمه”! وكان أبو محمد الغَنَوي النَّصِيبي الشافعي (ت 660هـ/1262م) “منقطِعا في منزله [بدمشق]… يتردد عليه جماعة من المسلمين واليهود والنصارى والسامرة [فـ]ـيُقرئ الجميع”؛ وفقا لابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ/1470م) في ‘النجوم الزاهرة‘.
ومثله ما حكاه السيوطي (ت 911هـ/1506م) -في ‘بُغية الوُعاة‘-عن شمس الدين محمد بن يوسف الجَزَري الشافعي القُوصي (ت 711هـ/1311م) من أن “انتصب للإقراء فقرأ عليه المسلمون واليهود والنصارى، وولي خطابة الجامع الطولوني [بالقاهرة]، وقرأ عليه التقي السبكي (ت 756هـ/1355م) وروى عنه”.
وجاء ضمن ترجمة عبد السيد بن إسحق الإسرائيلي (ت 715هـ/1315م) -في ‘الدرر الكامنة‘ لابن حجر- أنه كان “ديّان اليهود (= مرجعهم الديني)، وكان يحب المسلمين ويحضر مجالس الحديث وسمّعه [محدّث الشام الحافظ] المزّي (ت 742هـ/1341م)، ثم هداه الله تعالى وأسلم”. ومع شهود “مجالس سماع الحديث”؛ كان بعض المسيحيين واليهود يحضر “جلسات السماع الصوفية” بين المسلمين، ولذا حكى الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- أن “مقدَّم الطائفة الحريرية” الشيخ أبو الحسن الحريري (ت 645هـ/1262م) ”نهى أصحابه عن غلق الباب وقت السّماع حتى عن اليهود والنصارى”.
حماية شرعية
من نماذج ضمانات التعايش الديني في التجربة الإسلامية ما كان يُصدره العلماء والقضاة المسلمون من فتاوى لدفع ظلم الحكام عن رعيتهم وخاصة من غير المسلمين، ومن ذلك ما ذكره المؤرخ البُلاذري (ت 279هـ/892م) -في ‘فتوح الشام‘- من أنه حين حصل تمرد من بعض مسيحيي جبل لبنان على العباسيين وأخَذ أميرُهم على الشام صالح بن علي (ت 152هـ/769م) عامةَ مسيحيي المنطقة بجريرة بعضهم؛ رفض ذلك إمام الشام الأوزاعي (ت 157هـ/769م) مُستنكِرا في “رسالة طويلة” بعثها إلى الأمير “إجْلاءَ أهل الذمة من جبل لبنان ممن لم يكن ممالِئا لمن خرج على خروجه..، فكيف تُؤخَذ عامةٌ بذنوب خاصة حتى يُخْرَجوا من ديارهم وأموالهم، وحُكمُ اللهِ تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَة وِزْر أُخْرَى}”!!
وكذلك فعل المفتي وقاضي القضاة بمصر الحارث بن مسكين المالكي (ت 250هـ/864م) استفتاه الخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ/833م) في قتال أقباط قرية البُشمور (تقع اليوم بمحافظة الدقهلية شمالي مصر) حين تمردوا على سلطته سنة 216هـ/831م، فرفض الحارث قتالهم قائلا للخليفة: “لا يحلّ لك [دمُهم]! فقال له المأمون: أنت تَيْس”!! وذكر ابن الوردي (ت 749هـ/1348م) -في تاريخه- أنه في سنة 721هـ/1321م وقعت فتنة بالقاهرة حاصر فيها بعض العامة الكنائس “فغضب السلطان واستفتى القضاة فأفتوه بتعزيرهم”.
وفي أوج انتصارات الدولة العثمانية وتمددها؛ اعترض مفتيها شيخ الإسلام علي بن أحمد الجمالي الشهير بلقبه ‘زنبيللي علي أفندي‘ (ت 932هـ/1527م) على قرار أراد إصداره سلطانُها القوي سليم الأول (ت 925هـ/1520م) ويقضي بـ”حمْل النصارى الذين في المملكة على الإسلام جميعًا، أو [أن] يخرجوا من البلاد”، فما كان من المفتي الجمالي إلا أن وقف في وجهه بحزم “وقال له: لا يحلُّ لك ذلك! وليس لنا إلا أن نأخذ منهم الجزية والطاعة”!!
وحين روى المفكر اللبناني شكيب أرسلان (ت 1366هـ/1946م) هذه الحكاية -في كتابه ‘تاريخ ابن خلدون‘ مؤكدا أن خبرها “مَرْويّ بالتواتر وفي الكتب أيضًا”- علّق عليها قائلا: “ثبت أن الشريعة الإسلامية بعدالتها وأمانتها هي التي حفظت المسيحيين في السلطنة العثمانية أيام كان السلطان يَقدِر أن ينفّذ جميع ما يريده بهم، ولذلك نجد ملاحدة الترك ينتقدون دائمًا العمل بالشرع الإسلامي بحجة كونه السبب في بقاء النصارى في السلطنة العثمانية، وأن بقاءهم كان السبب في ضعف تركيا..، ولذلك لما استولوا على الحكم بعد الحرب العامة (= الحرب العالمية الأولى) أخرجوا جميع النصارى من تركيا، ولم يبق إلا النصارى الذين في القسطنطينية فقط” لأن الأوروبيين رفضوا إجلاءهم منها!!
ثم أضاف أرسلان وكأنه يعيش لحظتنا الراهنة التي تتصاعد فيها -رسميا وشعبيا- ظاهرةُ الإسلاموفوبيا في الغرب: “ومن العجب أننا نرى الأوروبيين يعملون بكل قوتهم لمحو الشرعية الإسلامية التي في ظلها -وبسببها لا غير- بقي النصارى في جميع الممالك الإسلامية.. متمتِّعين بجميع الحقوق التي يتمتع بها المسلمون، منذ ظهور الإسلام إلى يوم الناس هذا..، ومن العجب [أيضا] أننا نراهم مع ذلك يفضلون أن تكون الحكومات الإسلامية مُلْحِدَةً ولو كانت تُخْرِج جميعَ النصارى من بلادها! وهذا أقصى ما يتصوره العقل من التحامل والتعصب على الإسلام: يكرهونه ولو حفظهم، ويحبون زواله ولو كان في ذلك زوالهم”!!
بل إن المستشرق السويسري آدم متز (ت 1336هـ/1917م) يقول إنه “كثيرا ما كان رجال الشرطة المسلمون يتدخلون بين فرق النصارى لمنعهم من المشاجرات” فيما بينهم، وذكر نموذجين من تلك الوقائع؛ مشيرا إلى محاولة الخليفة المأمون فرض الحرية الدينية قانونيا لطوائف المسيحيين ولو كان عدد إحداها عشرة أشخاص فقط، لكن رؤساء الكنائس اعترضوا على ذلك فتركه المأمون!
وجه آخر
ختاما؛ فإننا -حين نقف على هذه اللحظات ونتوقف عند تلك المحطات- واعون بالجانب الآخر من التجربة -وقائع ونصوصا- الذي صبغه التشاحن بدلا عن التعاون، والتحارب عوضا من التحاور. ولكننا نعتقد أن صور التراحم والتلاحم -التي نقدم هنا نماذج يسيرة منها مما حفظته سجلات التاريخ المنشورة- كانت رغم قلتها هي الأصلَ الممثـِّلَ للمبدأ القيمي المؤسِّس للعلاقة بين مكونات ساكنة أقطار الإسلام منذ انساحت فتوحه خارج جزيرة العرب، تلك العلاقة القائمة على خضوع الجميع لمبدأ “الإنصاف والانتصاف” وقاعدة “لهم ما لنا وعليهم ما علينا”.
وأما ما سواها من صور التظالم -بمختلف ضروبه- فكانت تعكس الممارسة التاريخية للمبدأ القيمي في لحظات ضعفها وانكفائها الأخلاقي، متخليةً عن قيم البر والقسط: توظيفا مطفِّفا لنصوص الدين تسويغا لهضم حقوق الأخوة والعهد والجوار، أو تأثرا بأزمات هموم العيش اليومي ورَهق التعايش المجتمعي، أو انعكاسا لمظالم السياسة والسلطان وحسابات الولاء لحكم محلي داعم أو غزو أجنبي داهم.
وآية كل ذلك؛ أن الظلم -مهما كان مصدرُه مُسْلِماً أو غيرَ مُسْلِم- عانى منه الجميع مسلمين وغير مسلمين، والتحيز والتمييز مارستهما كافة المذاهب والطوائف الإسلامية حتى تجاه بعضها بعضا، استجابة لغواية التعصب المذهبي. كما أن التحالف مع الأعداء والاحتلال الأجنبي مارسه المسلمون وغيرهم.
ومن أمثلة شمول ظلم السلطة للجميع بمن فيهم رموزهم العلمية؛ ما رواه ابن تَغْري بَرْدي -في ‘النجوم الزاهرة‘- من أنه في سنة 791هـ/1389م “قـَـبَض [الأميرُ] منطاش (قـُـتل 795هـ/1393م) على متّى بطرك النصارى وألزمه بمال، و[قبض] على رئيس اليهود وألزمه أيضا بمال… ثم طلب منطاشُ [إحضارَ] الشيخ شمس الدين محمد الركراكي [القاضي] المالكي (ت 793هـ/1391م) وألزمه بالكتابة على الفتوى في أمر [الانقلاب على] الملك الظاهر بَرْقوق (ت 801هـ/1398م) فامتنع من الكتابة غاية الامتناع، فضربه منطاش مئة عصاة وسجنه بالإسطبل”!!
ويكفي أن نذكر من صور التظالم بين المسلمين –بداعي التعصب المذهبي- هذه الأقوال التي صدرت من بعض علمائهم الكبار الذين ينتمون إلى طبقة يُفترض فيها أن تضبط أحكامَها بميزان كفتاه: العلم والعدل؛ فقد كان القاضي شَريكاً النَّخَعي (ت 177هـ/791م) -على ما رواه عنه الخطيب البغدادي في ‘تاريخ بغداد‘- يقول: “لأنْ يكون في كل حي من الأحياء [بالكوفة] خَمّارٌ خير من أن يكون فيه رجل من أصحاب أبي حنيفة (ت 150هـ/768م)”.
ورأى العالم الحنفي محمد بن شجاع الثلجي (ت 266هـ/879م) أن ”أصحاب أحمد بن حنبل يحتاجون أن يُذبَحوا”!! فما بالنا بالمغايرين في المعتقد الديني الذين عُرفوا -في أحيان كثيرة- بـ”ما لهم من الحرية الزائدة والجاه القاطع” في مؤسسات الاقتصاد وأروقة السلطة!!
إن هذا التاريخ الطويل والتراث العريض للتسامح الإسلامي مع معتنقي الأديان المختلفة هو ما جعل المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون (ت 1350هـ/1931م) يستخلص -في نهاية كتابه ‘حضارة العرب‘- أن المسلمين عاملوا “كل قـُطْر استولوا عليه بعطف عظيم تاركين لهم قوانينهم ومعتقداتهم…؛ فالحق أن الأمم لم تعرف راحمين متسامحين مثل العرب ولا ديناً سمحاً مثل دينهم”.
وهي الخلاصة نفسها التي توصل إليها اليوم الأديب والصحفي اللبناني الشهير أمين معلوف حين قال في كتابه ‘الهويات القاتلة‘: “لو كان أجدادي مسلمين في بلد فتحته الجيوش المسيحية، بدلا من كونهم مسيحيين في بلد فتحته الجيوش المسلمة؛ [فـ]ـلا أظن أنهم كانوا استطاعوا الاستمرار في العيش -لمدة أربعة عشر قرنا- في مدنهم وقراهم، محتفظين بعقيدتهم؛ [فـ]ماذا حدث فعليا لمسلمي إسبانيا وصقلية؟ لقد اختفوا حتى آخرهم: ذبحوا أو هُجِّروا أو تم تعميدهم بالقوة! يوجد في الإسلام -ومنذ بداياته- قدرة مميزة على التعايش مع الآخر”!!