حذرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) أمس الخميس من أن 640 من الأبنية التراثية تضررت جراء الانفجار الذي ضرب بيروت يوم 4 أغسطس/آب الحالي، 60 منها معرضة للانهيار، مؤكدة أنها ستقود التحرك الدولي لإعادة إعمار تراث العاصمة اللبنانية.
وأعلنت المنظمة أنها حصلت على هذه الأرقام من تقييم قام به المدير العام للآثار في وزارة الثقافة في لبنان سركيس خوري.
وقال خوري “تضرر ما لا يقل عن 8 آلاف مبنى” معظمها في أحياء الجميزة ومار مخايل القديمة، داعيا إلى أعمال “عاجلة” تفاديا لتفاقم الأضرار مع الأمطار في فصل الخريف.
وأضاف البيان، الذي نقلته وكالة الصحافة الفرنسية، أن الانفجار “ألحق أيضا أضرارا بمتاحف عديدة كالمتحف الوطني ومتحف سرسق ومتحف الجامعة الأميركية في بيروت والمواقع الثقافية والدينية وصالات العرض”.
أرقام متضاربة
وتشتهر بيروت بتمازج الطرز المعمارية، حيث تتجاور المباني العثمانية العربية والعمارة الأوروبية الحديثة، وعرفت قديما المباني الرومانية والبيزنطية التي بقيت منها أعمدة تم اكتشافها تحت الأرض في قلب المدينة في مطلع ستينيات القرن الماضي.
ورغم أنه لا توجد إحصاءات أو أرقام دقيقة عن عدد البنايات التراثية التي لا تزال في بيروت، فإن دراسة أجريت عام 1997 ذكرت أن عددها في حدود 572 مبنى، وعلى الرغم من أن الدراسة غير مكتملة، فإن المعمارية والناشطة اللبنانية المعروفة بالدفاع عن تراث بيروت منى الحلاق قالت في لقاء سابق مع الجزيرة نت إن 150 على الأقل من هذه الأبنية فُقدت منذ إجراء هذه الدراسة.
أما الباحثة والمتخصصة في العدالة الاجتماعية والمدن سمر كنفاني من معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية، فأجرت بحثا تفصيليا عام 2019 في الجامعة الأميركية، أكدت فيه أنه في عام 1999 كان هناك رصد لنحو 500 معلم من الأبنية التراثية، لكنه في عام 2010 لم يبق منها إلا 250 مبنى.
وتضيف سمر أنه في عام 2019 لم يتبق من “بيروت القديمة” إلا 200 بناية تراثية، وهذا دليل يثبت الخطر المحدق بمصير الأبنية التراثية في بيروت، مع استمرار هدمها واستبدالها بالأبنية الشاهقة، في تشويهٍ متعمّد لتراث العاصمة اللبنانية وصورتها الجميلة، فضلا عن غياب القوانين الرادعة بحق المخالفين والمستثمرين.
مرفأ العاصمة اللبنانية
ويقع مرفأ بيروت بالقرب من المناطق السكنية الكثيفة في الجميزة والجعيتاوي ومناطق حضرية راقية لا يفصلها عنه سوى طريق سريع. وإلى الشرق من الميناء، وعلى مقربة منه مباشرة، توجد أحياء مار ميخائيل والكرنتينا (محطة الحجر العثماني) التي كانت بمثابة نقطة وصول واستقرار لموجات متعاقبة من اللاجئين، بما في ذلك الأرمن في عشرينيات القرن الماضي والفلسطينيون منذ الأربعينيات من القرن الماضي.
وتستضيف هذه المجموعة من الأحياء العديد من الخدمات الحكومية والخاصة في لبنان، بما في ذلك مزود الكهرباء ومحطة الحافلات و3 مستشفيات.
خضعت منطقتا الجميزة ومار ميخائيل على وجه الخصوص لعملية تطوير في العقد الماضي، مما أثار احتجاجات من السكان ضد هدم المباني التراثية والتلوث الضوضائي وارتفاع أسعار العقارات.
ومثلت الأحياء الشعبية حول المرفأ ووسط المدينة المعاد بناؤه تحديا كبيرا لإعادة إعمار بيروت بعد الحرب، مما أدى إلى جدل واسع قد يتكرر بعد انفجار المرفأ الأخير.
وسط بيروت
وكانت منطقة وسط بيروت واحدة من أكثر المناطق اللبنانية التي عانت خلال الحرب الأهلية (1975-1990)، إذ كانت ساحة قتال استخدمتها المليشيات المختلفة على جانبي الخط الأخضر الذي قسم المدينة إلى جانب شرقي مسيحي وجانب غربي مسلم.
وهكذا تمت عسكرة المدينة عامة، والمنطقة المركزية خاصة، وألغت الحرب التمييز بين المساحات الخاصة والعامة، إذ تحولت المنطقة المركزية ومبانيها إلى “البنية التحتية للحرب”.
ورغم الدمار الهائل الذي لحق بالمنطقة الوسطى في بيروت، فإن عمليات إعادة البناء التي قامت بها “سوليدير” بعد الحرب أدت إلى تدمير وإزالة مخلفات الحرب الأهلية كما لو أن الحرب لم تحدث أصلا.
ويدرك المتجول في هذه المنطقة الآن مدى حداثتها وطراز أسواقها الأوروبية وروح العولمة والاستهلاك التي حلت محل المباني الممتلئة برصاص الحرب.
وفي فترة ما بعد الحرب، توسّع ميناء بيروت إلى ميناء بحري رئيسي في المنطقة، وتمت الدعوة إلى تقديم عروض لمناقصة دولية لإدارة محطة حاويات (إلى الشرق من مكان الانفجار)، وشهد المرفأ زيادة كبيرة في سعة السفن.
وفي تقرير نيويورك تايمز، قالت الصحيفة إنه في زمن الحرب الأهلية كان من الصعب أحيانا أن نتذكر أنه قبل بضع سنوات فقط كانت بيروت “باريس الشرق” وعاصمة بلد عرف باسم جوهرة البحر الأبيض المتوسط.
وفي الزمن الحالي، يقع ميناء بيروت مواجها لمنطقة تضم أغلى العقارات في المدينة، منطقة وسط بيروت. وفي أوائل الثمانينيات، كانت هذه المنطقة محددة لإعادة التطوير، وفي نهاية الحرب الأهلية كانت هدفا لواحدة من أكبر عمليات الاستثمار في تاريخ لبنان.
تم اعتبار إعادة التطوير قضية جدلية بسبب المخاوف بشأن الافتقار إلى الاستدامة، وعدم المساواة مع بقية أحياء المدينة، وارتفاع أسعار العقارات، ونقص الأماكن العامة والخدمات المكلفة.
وفي عامي 2015 و2019 أصبحت هذه المنطقة نقطة ارتكاز للاحتجاجات العامة المناهضة للحكومة حتى تفشي وباء كورونا، وسيطر المتظاهرون على العديد من المباني والساحات في وسط المدينة.