خلال جائحة كورونا التي أصابت ملايين البشر، يسود التشاؤم بشأن مستقبل البشرية، لكنّ كتابا جديدا صدر حديثا بعنوان “البشرية.. تاريخ مفعم بالأمل” يبدو نوعا من التفكير عكس التيار.
واستند عمل المؤلف الهولندي روتجر بيرغمان على دراسات معاصرة وتحليلات تاريخية تدعم فكرته بأن البشر يفضلون السلوك التعاوني والاجتماعي على الكراهية والعنف، محاولا دفع المتشائمين لإعادة التفكير في مبرراتهم.
ويقول بيرغمان إن حياة أسلافنا من عصور ما قبل التاريخ والمجتمعات القبلية لم تكن بهذه الصورة السيئة والوحشية التي يجري تخيلها في كثير من الأحيان. وبدلاً من ذلك، كانت هذه المجتمعات مسالمة إلى حد كبير ومنظمة ذاتيا، قبل أن تبدأ المجتمعات في تبني التسلسلات الهرمية الاجتماعية وتظهر أنظمة الجيوش والحكام الدائمين، ومعهم، كما يقول، برز العنف وعدم المساواة.
نظرية القشرة
ينفي بيرغمان أن يكون البشر، بحكم طبيعتهم وفطرتهم، أنانيين وعدوانيين، ويسمي هذه الفكرة السائدة “نظرية القشرة”، ومفادها أن الحضارة ليست أكثر من قشرة رقيقة تتصدع، وعندما تضرب الأزمات المجتمعات مثل فترة سقوط القنابل أو ارتفاع مياة الفيضان يصبح البشر في أفضل حالاتهم، كما يقول المؤلف.
ويراجع بيرغمان ما كتبه المفكرون والفلاسفة وباحثو علم النفس الاجتماعي، ويستعرض أفكار الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز أو كما يسميه “الرجل الذي أكد أن المجتمع المدني وحده يمكن أن ينقذنا من غرائزنا الأساسية”، والفرنسي جان جاك روسو الذي اعتبر أن البشر فطرتهم جيدة وأن “الحضارة هي ما يدمرنا”.
ويبدو المؤلف متضامنا مع رأي روسو، ويشرح فكرته بالقول إن عصر اكتشاف الزراعة مثل سقوطا للتعايش البشري السعيد، مؤكدا أنه لا يوجد دليل يدعم الفكرة الشائعة على نطاق واسع بأن مجتمعات البدو والصيادين كانت غير سلمية، لكن السلطة تفسدهم، كما يقول.
ويتساءل المؤلف “ماذا لو كانت أفكارنا السلبية حول الطبيعة البشرية هي في الواقع شكل من أشكال الجهل؟”، مؤكدا أن البشر في الواقع أكثر لطفا وإيثارا من الحكومات أو الشركات أو المؤسسات الحديثة.
ويطرح الكتاب فكرة جذرية مفادها أن البشر في أعماقهم “محترمون” ويتمتعون بالرقي، ومع ذلك قد يتساءل بعض القراء: إذا كانت نتائج المؤلف صحيحة فلماذا يتقاتل البشر إذن؟ ولماذا يمتلئ العالم والتاريخ بالحروب والشرور والإبادات الجماعية؟
تشاؤم الفلاسفة
وفقًا للمؤلف “لدينا نظرة متشائمة إلى حد ما ليس لأنفسنا على وجه التحديد، ولكن تجاه كل شخص آخر”، ويشرح “نحن نعتبر الآخرين أناسا أنانيين وغير جديرين بالثقة وخطرين، وبالتالي نتصرف تجاههم بريبة وشك، وهكذا تصور الفيلسوف في القرن 17 توماس هوبز حالتنا الطبيعية، معتقدا أن كل ما قد يحول بيننا وبين الفوضى العنيفة هو دولة قوية وقيادة حازمة”.
لكن في حالة اتباع هوبز، كما يقول بيرغمان، فإننا نضمن أن تنعكس علينا النظرة السلبية التي نراها عن الطبيعة البشرية، وبدلا من ذلك، يضع المؤلف ثقته في جان جاك روسو، المفكر الفرنسي في القرن 18، والذي قال إن الإنسان يولد حرا، بينما الحضارة -بطرقها وأدواتها القسرية ونظام الطبقات الاجتماعية وقوانينها التقييدية- هي من يضعه في القيود والأغلال.
ويُنظر إلى هوبز وروسو على أنهما قطبا جدل الطبيعة البشرية، ويقول المؤلف إن اكتشاف البشر للزراعة أدى لانقلاب كل شيء، وعلى مدى العشرة آلاف عام التالية كانت كل أشكال الحرب والجشع والظلم تحدث، وسواء كانت هذه الرؤية للحياة قبل الزراعة دقيقة أم لا، ويجادل المؤلف الهولندي بأن المجتمع المعاصر قد بني على فرضية خاطئة، مؤكدا أن البشر في جذورهم “ودودون وسلميون”.
الحضارة والعنف
يقول بيرغمان لقد كان الاستقرار والتخلي عن أسلوب حياة الرّحل ثم تدجين الحيوانات هو ما تسبب في الأمراض المعدية مثل الحصبة والجدري والسل والزهري والملاريا والكوليرا والطاعون، وقد يكون هذا صحيحا، ولكن ما يبدو أن بيرغمان لم يناقشه في الكتاب هو أن مسببات الأمراض لم تكن الأشياء الوحيدة التي نمت مع الزراعة، بل كذلك تزايدت أعداد البشر وتحسنت معيشتهم.
إن الحفاظ على علاقات ودية ونمط حياة بلا ممتلكات شيء ممكن عندما يكون المجتمع مكونا من 30 أو 40 صيادا يتتبعون الطعام، لكن الحياة تصبح أكثر تعقيدا، والمعرفة أكثر اتساعا، عندما تكون هناك مستوطنات تضم آلافا عدة من البشر، بحسب عرض صحيفة فيناننشال تايمز البريطانية للكتاب.
كما أن حجج بيرغمان في الكتاب الجديد تبدو صالحة لدعم فكرة تقديم المزيد من الاستقلال للموظفين وتقليل المراقبة الإدارية، وهي أمور محل ترحيب، ويبدو لهذا التفكير وجاهة في وقت قد يميل فيه أرباب العمل إلى استخدام برامج تتبع جديدة لمراقبة عُمالهم، الذين يقبعون حاليا في المنازل.
ويجادل بيرغمان بأنه عندما تكون المدن عرضة لحملات القصف، أو عندما تحطم مجموعة من الفتيان سفينة في جزيرة نائية، فإن الأمر الملحوظ هو درجة التعاون والضحك الجماعي الذي يبرز في المقدمة.
هناك قدر كبير من الطمأنينة البشرية التي يمكن أخذها من هذا الكتاب الجريء والمثير للتفكير، ومجموعة كبيرة من الأدلة لدعم الزعم القائل بأن إحساس البشر بأنفسهم قد جرى تشويهه، ولكن يبدو مضللا بالقدر نفسه أن يتم اختيار واحدة فقط من وجهتي النظر التي حملها روسو وهوبز، في حين أن الواقع يوحي بأن الإنسانية تشمل وجهتي النظر معا.
التقدم والجائحة
ومنذ عصر التنوير الأوروبي وما تلاه، كان لدى العالم الغربي اعتقاد دائم بأن أحوال البشرية تتحسن باستمرار عبر تطوّر المؤسسات والأفكار والابتكارات وأنماط الحياة الجديدة. وفي العصر الحديث، من المفترض أن تتسارع وتيرة التقدم مع التقنيات الجديدة التي تمكّن الأفراد والمجتمعات، لكن هل التقدم حتمي بالفعل؟
يزعم الناقدون لهذه الفكرة أن الحضارة الإنسانية اختلفت بالفعل لكنها لم تتقدم ولم تصبح أفضل، وعلى مدى القرنين ونصف القرن الماضيين، ينظر بعض الفلاسفة والمفكرين للتقدم بطريقة أخرى باعتباره “أيديولوجيا وليس حقيقة” أو طريقة للتفكير في العالم بدلا من وصفه.
ويطرح كتاب “هل أفضل أيام البشر قادمة؟” الصادر ترجمته العربية حديثا عن دار نابو للنشر العراقية، هذه التساؤلات من زوايا فكرية واجتماعية وفلسفية مختلفة. ويمثل الكتاب نوعا من المناظرة بين أربعة آراء متعددة للكاتبين السويسريين: آلان دو بوتون ومات ريدلي، وكلا من الباحث الأميركي في اللغويات وعلم النفس المعرفي ستيفن بينكر، والصحفي البريطاني مالكوم غلادويل.
وفي الكتاب والمناظرة دلل آلان وريدلي على وجهتي نظريهما المتفائلة بمجموعة من الإحصاءات التي تظهر تحسنا مطردا في رفاهية الإنسان الحديث، وفي المقابل شدد الفريق المتشائم على خطورة مشكلات البيئة المعاصرة وأثمان التقدم الفادحة، ونظر بنوع من القلق أو الحذر للتوسع في استخدام الروبوتات وتهديداتها للبشر.
ويمكن تلخيص حجة المتفائلين الرئيسية بأن مؤشرات التقدم الإنساني -مثل الثروة والصحة وقضايا عدم المساواة- تظهر تحسنا كبيرا، في المقابل يعترف الصحفي البريطاني غلادويل بذلك، لكنه يشدد على احتمال وقوع كارثة كبرى (حرب نووية وما إلى ذلك).