د هشام داود*
في أيار/ مايو 2018 قررت واشنطن الانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني Joint Comprehensive Plan of Action, JCPOA، واستؤنفت العقوبات في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه. وتشهد الأزمة اليوم تنامي عمليات نشر القوات العسكرية، من خلال إرسال حاملة طائرات وبطاريات صواريخ باتريوت مضادّة للصواريخ، ونشر 1600 جندي إضافي في منطقة الخليج.
غير أنّ هذه الأزمة تُعدّ جزءًا من الإستراتيجية الأميركية المستمرّة تجاه إيران منذ عقود. ويمكن القول إن خطة العمل الشاملة المشتركة تسعى، من بين ما تسعى إليه، لتبيّن للإيرانيين مدى حاجتهم إلى رفع العقوبات لحماية اقتصادهم؛ إذ لم يعد في إمكان الاقتصاد الإيراني أن يشهد نموًّا يُذكر ما لم يندمج اندماجًا لافتًا في الاقتصاد العالمي. ولم ترغب إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، في تحويل هذا الاتفاق إلى معاهدة (أو اتفاق تنفيذي، يخضع في كلتا الحالتين لتصديق الكونغرس، ليُجعل التزامًا قانونيًا)، فهو، بحسب جون كيري، وزير الخارجية في عهد أوباما، “التزام سياسي لم يُوقّع” فحسب؛ إذ شدّد أوباما على أن هذا الاتفاق إذا كان لا يغيّر البتّة في طبيعة النظام الإيراني الذي لا يزال “نظامَ حكمٍ دينيًا استبداديًا […]، معاديًا للولايات المتحدة وللإسرائيليين، ومعاديًا للسامية، وداعمًا للإرهاب”، فإنه سيَحول، مدّة عشر سنوات، دون أن يضيف هذا النظام سلاحًا نوويًا إلى ترسانته، يعزّز به قوتَه، وهي قوة غير متناظرة Puissance asymétrique أصلًا، بما يتيح له تقييد الوصول الأميركي إلى الخليج Anti-accès، أو يضع حدًّا له. وأعرب أوباما عن حذره وقلقه من أن يستفيد النظام الإيراني من رفع العقوبات في عمليّاته التي تزعزع الاستقرار، قائلًا: “أؤمن الآن فعليًا بأن الإيرانيين معنيون بمحاولة العمل في مستويات موازية؛ بغية الحصول على امتيازات الشرعية الدولية والتجارة، وخفض العقوبات، بينما لا يزالون يعملون، من خلال وكلاء، بطرق مدمّرة في جميع أنحاء المنطقة. لطالما كان هذا نمطهم، وأعتقد أن من المهم جدًّا أن نحرص على كشف ما يقومون به من خلال وكلائهم، ومحاسبتهم”.
إنّ رفع جزء كبير من العقوبات (باستثناء العقوبات الأساسية المتعلّقة بدعم الإرهاب والانتشار النووي)، مدة ثلاث سنوات، أتاح لطهران فرصًا غير مسبوقة في حقل التنمية؛ ففكّرت أكبر الشركات الغربية، بما في ذلك شركة بوينغ، في استثمار عشرات المليارات في البنى التحتية والقطاعات الأساسية في إيران. وفي الوقت نفسه، دفعت عملية مكافحة السلفية الجهادية العابرة للحدود الوطنية طهران إلى الاعتقاد بأن التطبيع السياسي مع واشنطن والغرب قد يصبح حقيقة. غير أنّ نشاطها العسكري ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” عزّز الاتهامات الأميركية والإقليمية ضدّها، والمتمثّلة بتوسيع نفوذها الجيوسياسي، وهو ما أثبت في النهاية الفرضيةَ الإستراتيجية الأميركية التي تفيد أن إيران بلورت إستراتيجية تتعارض في جوهرها مع المصالح الأميركية. وبالفعل، ترى واشنطن أنّ المبارزة الأيديولوجية التي تحرّض الشعوب على الانتفاض ضد الأنظمة القائمة و/ أو مكافحة نفوذ/ تدخّل الغرب، إضافة إلى إمكانية التواطؤ مع روسيا والصين، أو القوى الصاعدة (مثل تركيا والهند وغيرها)، قد تمثّل عوامل “تحول دون توفير مدخل لها”. وفي هذا المعنى، من غير الوارد أن ترى واشنطن إيران وقد تحولت إلى بلد نووي، لا اليوم ولا بعد عشر سنوات أو أكثر.
تكمن أداة الإستراتيجية الأميركية، الأداة الوحيدة الفاعلة من دون شك، في فرض العقوبات. وكما أشار إليه أوباما، فلا يمكن القضاء على قدرة إيران، وقد اكتسبت المهارة، على تطوير السلاح النووي، ولكن يمكن ثنيها عن وضعها موضع التنفيذ الفعلي: “اليوم، يفضّل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ككثير من النقاد، ألا يكون لدى الإيرانيين أي قدرة نووية، لكن ذلك يعني، في الحقيقة، القضاء على المعرفة داخل إيران. ولم تعد التكنولوجيا النووية معقدة اليوم، ومن ثم، فإن اعتبار أنّ معيار النجاح قائم على ما إذا كانوا سيمتلكون يومًا القدرة على الحصول على أسلحةٍ نووية ليس صحيحًا. ويبقى السؤال هنا: هل نملك أنظمة التفتيش هذه، والضمانات والإجماع الدولي، التي تستطيع ردع الإيرانيين عن الحصول على هذه الأسلحة؟ نحن حققنا ذلك”.
*كاتب وباحث عراقي مقيم في باريس
LEAVE A COMMENT