العراق كمعظم الدول العربية والنامية، لا يتحمل سوى جزءً قليلاً من المسؤولية في انبعاث الغازات الدفيئة، ذلك أن معظم تلك الدول، منها العراق، لا تنتج سوى 5 في المئة من الغازات الدفيئة المُسببة للاحتباس الحراري، وذلك وفقاً لتقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية لعام 2011. ومع ذلك تشهد البلاد منذ عام 2008 موجات جفاف عنيفة وبدت آثارها واضحة على الزراعة والأراضي ومصادر المياه والحياة العامة، فضلاً عن ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة. لقد أصبحت ممكنة رؤية وادي الرافدين على خريطة بيئية جديدة تشكل ندرة المياه ملمحها الرئيسي. وقد بدت الملامح الأولى لهذه الخريطة في تقرير أصدره معهد مصادر العالم بتاريخ 25/8/2015 حيث احتل 14 بلداً في الشرق الأوسط صدارة لائحة 33 بلداً في العالم، تواجه شح مياه حقيقياً في العقود المقبلة. ومن بين هذه البلدان السعودية، البحرين، الكويت، الإمارات، لبنان، فلسطين، إيران، إسرائيل، العراق. وأشار التقرير إلى أن الإدارة السيئة والتبذير والازدياد السكاني، هي عوامل إضافية لموجات الجفاف العنيفة التي تضرب مناطق في العالم بسبب التغير المناخي. وتعاني منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أكثر من أي منطقة في العالم من حدة تأثير التغير المناخي ونقص المياه، وذلك بسبب طبيعتها القاحلة أو شبه القاحلة، فضلاً عن أنها تضم 6 في المئة من إجمالي سكان العالم وأقل من 2 في المئة من الموارد المائية المتجددة في العالم. ولا تتجاوز مساهمة هذه المنطقة في انبعاث الغازات الدفيئة 2.4 في المئة على مستوى العالم.
على رغم تأثر أمطاره بمناخ بحر الأبيض المتوسط، يصنف العراق بشكل عام ضمن المناخات شبه المدارية، وذلك بحكم موقعه الجغرافي الطبيعي الواقع بين دائرتي العرض 29 و37 شمالاً من الفاصل المداري، كما إنه يبعد من بحر الأبيض المتوسط 1000 كيلومتر. إن هذا الموقع الجغرافي الذي يضعه في مركز الشرق الأوسط، يحده جنوب الأناضول شمالاً، شمال غربي إيران شرقاً، سوريا والأردن في الغرب والصحراء العربية والخليج العربي جنوباً، ناهيك بتضاريسه الداخلية المتنوعة. تالياً، تتميز الصفات المناخية في مناطق العراق المختلفة بالتفاوت وفق هذه العوامل الجغرافية التي تجعل المناخ في الجنوب مدارياً، بينما مناخه الشمالي متوسطي حيث الصيف الحار والجاف، والشتاء البارد الممطر. وإذا كان بالإمكان أن يكتسب هذا الوصف المناخي للعراق أهميته الى عقود مضت، فتقتضي المتغيرات البيئية أوصافاً وتعريفات جديدة لأحواله المناخية، وذلك بسبب تمدد المناخ المداري وتقلص المدار المتوسطي.
التغير المناخي وآثاره
لقد صارت ممكنة ملامسة الآثار الناتجة عن التغير المناخي في السنوات الأخيرة مثل موجات الحرّ المتطرفة والتصحر وشح المياه في جميع أنحاء البلاد. وباستثناء المناطق الجبلية في إقليم كُردستان، تتميز غالبية المناطق الأخرى في البلاد بطبيعة جافة أو شبة جافة لا تتجاوز فيها نسبة هطول الأمطار 150 ملم سنوياً. ولهذا السبب يعتمد العراق على سقوط الأمطار خارج حدوده الوطنية لتأمين أكثر من نصف احتياجاته المائية، الأمر الذي يجعله عرضة لتحديات جمة في ما خص أمنه المائي والغذائي، وذلك بسبب تبعيته المناخية الطبيعية والجيوسياسية لدول الجوار: تركيا وإيران وسوريا. وخفضت مشاريع تخزين المياه في دول الجوار، معدلات التدفق في نهري دجلة والفرات، وهما المصدران الرئيسيان لمياه العراق السطحية، إلى أقل من ثلث طاقتهما عام 2018 وقد تخفضها أكثر في السنوات المقبلة.
معظم مصادر مياه دجلة والفرات الآتية من جنوب شرقي الأناضول، يقع في منطقة الشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط. وهي منطقة متأثرة بهشاشة مناخ الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما يفاقم أسباب تناقص تدفق المياه في الأنهار. هذا ما يذهب إليه الباحثان نصرت أدامو ونظير الأنصاري في دراسة مشتركة بعنوان “تأثيرات التغير المناخي… الشرق الأوسط والعراق في المرصاد”. ويعتمد الباحثان في دراستهما على تحليلات طويلة الأمد لقاعدة بيانات الأرصاد الجوية (الفترة 1901-2006) إلى جانب التوقعات الإقليمية لنموذج تغير المناخ للقرن الحادي والعشرين. وتشير تلك التحليلات إلى ارتفاع درجات الحرارة بشكل مستمر وتدريجي وقوي في هذه المنطقة وقد يتجاوز 5 درجات مئوية، ما يسبب انخفاضاً حاداً في سقوط الأمطار السنوي يتراوح بين 5 الى 30 في المئة.
إذاً، العراق يقع في قلب هذه التغيرات، فضلاً عن تأثره بعوامل مناخية طبيعية وكونية مثل تناقص الهطول المطري وتزايد موجات الحرّ، العواصف الغبارية وإطالة فصل الصيف، ما يزيد نسبة تبخر المياه. وتتأثر البلاد فوق ذلك بعوامل أخرى يفرضها موقعه الجغرافي حيث يقع في مصب جميع الأنهار الآتية من تركيا وإيران وسوريا. ولهذا السبب تتناقص كميات المياه في الخزانات والبحيرات والأنهار الى مستويات حرجة، الأمر الذي يؤثر سلباً في تغذية المياه الجوفية، ناهيك بسوء إدارتها والإفراط في استخدامها. ويمكننا في هذا السياق، أن نتذكر صورة نادرة نشرت على شبكات التواصل الاجتماعي على مستوى واسع صيف 2018، بدا فيها مواطن في العاصمة بغداد وهو يعبر نهر دجلة مشياً على القدمين. كانت تلك الصورة إشارة واضحة إلى مستقبل دجلة “الخير” في العقود المقبلة، إذ من المتوقع أن تشهد المنطقة المزيد من التوتر المائي.
تحدد وزارة البيئة العراقية في تقريرها عن (حالة البيئة في العراق لعام 2017) مؤشرات التغير المناخي في البلاد بأربع نقاط أساسية وهي: ارتفاع معدلات درجات الحرارة، قلة التساقط المطري، ازدياد شدة هبوب العواصف الغبارية مع نقصان المساحات الخضراء.
وتتمثل هذه التغيرات بحسب التقرير ذاته، في تهديدها “الأمن الغذائي، نتيجة تراجع الموارد المائية وتقلص الإنتاج الزراعي وتدهور الغطاء النباتي وفقدان التنوع البيولوجي. كما يشكل تغير المناخ تهديداً لاستثمارات اقتصادية حيوية، فضلاً عن التداعيات الاجتماعية والاقتصادية والصحية وانتشار الأمراض وتفاقم الأوبئة”.
وحذرت الأمم المتحدة من آثار تغير المناخ على العراق قبل التقرير المشار اليه بسبع سنوات. ورأى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP2010) في تقريره السادس لتوقعات أحوال البيئة لمنطقة غرب آسيا، أن العراق هو “خامس أكثر دولة في العالم هشاشة من حيث شح المياه والغذاء”، وذلك بسبب تأثر مياهه بعوامل خارجية مثل انخفاض هطول الأمطار من خارج الحدود، ما يخضع إدارة الموارد المائية لتغير المناخ ومشاريع التخزين في البلدان المجاورة.
وتقول وزارة البيئة إن “العراق يعتبر من البلدان التي تعتمد بشكل كبير جداً البلدان المجاورة مثل تركيا وسوريا وإيران لتوفير مصادر المياه العذبة التي تتدفق الى العراق عبر نهري دجلة والفرات وروافدهما وكذلك نهر الكارون. إن استمرار النقص في كمية المتساقطات (التساقط المطري) نتيجة تغير المناخ، إضافة إلى زيادة معدلات الاستهلاك في العراق والبلدان المجاورة التي تعتبر بلاد المنبع لمصادر المياه الواردة إلينا، عوامل ستؤدي الى تفاقم حالة شح المياه العذبة في بلدنا في المستقبل، ما سيخلق تحديات واضحة في قطاع المياه في العراق خلال العقود المقبلة”. إضافة الى ذلك، إن سنوات من اعتماد السبل القديمة في الممارسات الزراعية وسوء إدارة الموارد المائية أدت إلى تفاقم آثار المتغيرات المناخية وساهم في زيادة مساحات التصحر وفقدان أراض زراعية تلامس 28 في المئة، من إجمالي الأراضي الصالحة للزراعة وفقاً للحكومة العراقية، وذلك بسبب انخفاض رطوبة التربة وتناقص الغطاء النباتي، فضلاً عن العواصف الغبارية التي تلازم بيئة العراق في السنوات الأخيرة.
ماذا عن الأهوار؟
بناءً على ما تقدم، تتأثر النظم الطبيعية والتنوع الأحيائي في العراق بالتغير المناخي بنسب متفاوتة، وبحسب موقعها الجغرافي أو المؤثر المناخي. ويمكن تحديد ثلاثة مواقع ذات تنوع أحيائي قابل للتأثر بتغير المناخ: النظم الإيكولوجية في الاهوار في جنوب العراق، حيث تعتمد المجتمعات الأصلية تاريخياً عليها سبلاً للعيش، الغابات في إقليم كُردستان، والبحيرات والأنهار المنتشرة في أنحاء البلاد. وتبقى بيئة الأهوار من بين البيئات الأكثر عرضة وحساسية للتغير المناخي، وذلك بسبب انخفاض تدفق المياه في نهري دجلة والفرات وهما المصدران الرئيسيان للمسطحات المائية في جنوب العراق، إذ يعود تاريخ تشكلها الى آلاف السنين وفقاً للدراسات العلمية الجيولوجية.
بحسب الوزير السابق للموارد المائية في العراق حسن الجنابي “تعاظم التأثير السلبي لتغير المناخ في العراق بسبب التدخل الفظ للإنسان في الدورة الطبيعية للمياه في حوضي النهرين دجلة والفرات. كما تغيّرت وتشوّهت الطبيعة الهيدرولوجية فيهما، نتيجة إجراءات السيطرة على المياه وتخزينها بواسطة سلسلة السدود الكبرى التي أنشئت على مجاري النهرين وروافدهما في جميع دول الحوض خلال العقود الثلاثة الماضية. وأدى ذلك إلى انحسار أو انخفاض مناسيب الذروة الفيضانية، التي كانت تحدث طبيعياً في الربيع، نتيجة تخزين الزيادة في التدفقات خلف تلك السدود العملاقة. كما اصبحت الإطلاقات المائية من تلك السدود خاضعة لاعتبارات أخرى، ما زاد هشاشة الأنظمة الايكولوجية المرتبطة بها، ومنها بالطبع الاهوار العراقية”.
نادراً ما يشكل الهطول المطري في العراق مصدراً دائماً لتدفق المياه السطحية، الأمر الذي يخضع العراق لتبعية مناخية حيث يعتمد بشكل كبير على هطول الأمطار والثلوج على المرتفعات الجبلية، في كل من تركيا وإيران، وفي جزء منه على التساقط المطري وذوبان الثلوج على جبال كُردستان خلال الربيع. وتبرز هنا مشكلة بيئية أخرى، تتعلق بالأنماط المطرية حتى في منابع الأنهار التي لا يمكن أن يستمر العراق من دونها، وهي تناقص هطول الأمطار والثلوج في المرتفعات التركية بحسب توقعات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتغير المناخي والتابعة للأمم المتحدة.
فضلاً عما تم التطرق اليه، هناك قطاعات أخرى غير المياه والزراعة والتنوع الأحيائي، تأثرت بالتغير المناخي في العراق مثل قطاعي الصحة والتعليم. وتشير وزارة البيئة العراقية إلى “زيادة معدل الوفيات والإصابة ببعض الأمراض التي قد تنتقل بالمياه والأغذية الملوثة وكذلك ببعض الأمراض مثل الكوليرا والملاريا والتيفوئيد، والأمراض غير المعدية، كأمراض الجهاز التنفسي كالحساسية والربو والأزمات القلبية وامراض سوء التغذية وتلك التي يرتبط بعضها بتغير الظروف البيئية للحشرات الناقلة لهذه الأمراض نتيجة تغيرات المناخ، فيزداد تأثيرها في صحة الإنسان”.
*كاتب وباحث عراقي والمقال منشور في موقع “درج”
LEAVE A COMMENT