د.اياد العنبر*
ريثما نتقرب من نهاية الشهر الرابع للاحتجاجات في العراق، بات واضحا بأن الإدراك الوحيد الذي وصلت له الطبقة السياسية، أو ما اعتبرته من مؤشرات الخطر في تظاهرات بغداد وبقية المحافظات الوسطى والجنوبية، هو أن التهديد الذي يواجهه العراقيون يتمثل بانهيار الدولة.
وإذا حاولنا تفسير ذلك، سنجد أن الخطأ في إدراكهم وفهمهم لمعنى الدولة! فهم يفترضون بأننا نعيش في ظل كيان سياسي يسمى مجازا دولة، لكنه في الواقع هو لا يحمل من معنى الدولة سوى الأركان القانونية (الشعب، الأرض، السلطة)، وحتى هذه الأركان لو جرت مقاربتها بالمفاهيم السياسية لوجدنا الكثير من الاختلاف بشأن واقعها.
يتوهم كثير من السياسيين في العراق، سواء أكانوا يعلمون أو لا يعلمون، في وصفهم الواقع السياسي الذي نعيشه بـ”الدولة”. ولذلك فهم عندما يلوحون بخطر الانزلاق نحو الهاوية بفقدان الدولة، لا يجدون لذلك التهديد صدى لدى المواطن العراقي، لأنه متيقن تماما بأنه يعيش في ظل “اللادولة”، ومن ثم لا يمكن التهديد بالأسوأ من هذا الواقع.
ويبدو أن المشكلة أكثر تعقيدا من فهم الطبقة السياسية، فالعراق لا يزال في صدارة قائمة الدول الفاشلة أو الهشّة. فعند التدقيق في مؤشرات هذا الوصف نجدها تدور حول محور يتركز في عجز الدولة عن القيام بوظائفها الرئيسة، وأهمها: الحد من الفقر والتدهور الاقتصادي، والمشاكل بين المكونات، وشرعية الدولة، والخدمات العامة، والمنظومات الأمنية، والفصائل السياسية، والتدخل الخارجي، واللاجئون والمشردون.
ومن ثم، إذا تتبعنا تصنيف العراق في تقارير المؤسسات الدولية، سنجده يتصدّر تصنيفات الدول التي تعاني من انخفاض في جودة الحكم والاستقرار السياسي، وحكم القانون، حسب تصنيف البنك الدولي. والعراق يتصدّر قائمة الدولة الأكثر فسادا حسب منظمة الشفافية الدولية.
منذ عشرينيات القرن الماضي لم تغادر “الدولة” العراقية أزماتها، ودون الركون إلى التفسيرات الجاهزة التي تعتقد بأن الأزمة مركبة ما بين بُنية النظام السياسي والاجتماعي. لكني أميل إلى اعتبرها أزمة قيادة ووعي بمفهوم الدولة. ولذلك تجد السياسيين دائما يرفعون شعار “بناء الدولة العراقية” الذي تجده حاضرا في خطاباتهم وشعاراتهم. لكنه ظلّ شعارا خطابيا فوقيا، ولم يُترجَم إلى فعل قانوني لكي يكتسب المصداقية.
المفارقة تكمن في وعي مأزوم يطغى عليه التفكير بالسلطة وليس بالدولة، والفرق بينهما يتعارض في المجال السياسي. فالدولة تعمل وفق منطق الاسترضاء، أي تحقيق الرضا والقبول لدى جمهورها، اللذَين يعدان الركيزة الأساس في شرعيتها. أما السلطة فهي تعمل وفق منطق الاستحواذ، أيْ العمل على توسيع دائرتَي الهيمنة والنفوذ السياسي، بعيدا عن شرعية المنجز التي تمنح الثقة بين أصحاب السلطة والجمهور.
ولذلك، باتت عملية السيطرة على السلطة، ليست بمعنى إدارة هيئة لحكم المجتمع، وإنما تعبير عن الصراعات التآمرية بين مختلف النخب السياسية الحاكمة لفرض السيطرة على المجتمع، بدلا من إدارة شؤونه السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ومن ثمّ، تغيب المحاسبة المؤسساتية على الماسكين بالسلطة، وتتحول الانتخابات إلى وسيلة لضمان ممارسة السلطة والنفوذ، بدلا عن غايتها الرئيسة في تحقيق التداول السلمي للحُكم.
لا يمكن الحديث عن دولة بمفهومها المعاصر، ومن يدير شبكات العلاقات الاجتماعية فيها تنظيمات ما قبل الدولة، كالقبيلة والطائفة والقوميّة. وفي هذه الحالة ستكون مؤسسات الدولة بؤرة للصراع الاجتماعي، بدلا عن أن تكون تعبيرا عن حالة من التعالي على التناقضات الاجتماعية، وتعمل وفق أسس الاستقلالية والحيادية.
يتحدث بعض السياسيين بحديث فجّ عن “هيبة الدولة”، في حين أن ما نعيشه في العراق مفارقة خطيرة جدا، ناتجة عن توهمنا بأننا نعيش في ظل دولة، إذ نجد أن المشكلة أكثر تعقيدا، وهي سيطرة القوى الموازية للدولة على المجال السياسي. لتكون مأساتنا مركّبة من غياب للدولة، وهيمنة “مافيات سياسية” على مفاصل الحياة العامة، ويساعدها في ذلك اقتصاد ريعي جعل السيطرة السياسية بوابة للهيمنة على جميع الموارد الاقتصادية.
ومن ثم، أصبحت العلاقة بينهما طردية، فمن يملك السلطة يملك الثروة. وهنا لا تمارس السلطة السياسية سياستها على الاقتصاد بصفتها أداة ضبط وإدارة وتطوير، وإنما هيمنة وتحكم بمجمل الثروات الوطنية، ليتم إدارتها وفق منطق الغنيمة وتوزيع المزايا والمنافع على الأتباع والموالين، بدلا من أفراد المجتمع بوصفهم مواطنين.
ما يشهده العراق مرحلة أخطر من الدكتاتورية والأنظمة الشمولية، فهو لا يعاني فقط من انعدام وجود الدولة، وإنما يعيش في ظل تعددية مفرطة للقوى اللادولتية أو قوى الدولة الموازية، وغياب شبه تام للمؤسساتية التي يتجسد فيها مفهوم الدولة.
ففي النظام الدكتاتوري تتمركز السلطة بيد “القائد الضرورة” أو “الحزب السياسي”، أما في نظام يخضع لهيمنة القوى الموازية للدولة، تتعدد مراكز القرار والنفوذ، وتضيع جميع ملامح الدولة برمزيات الزعامات المتناحرة.
ولا يحتاج موضوع التأكيد على غياب الدولة سرد الكثير من الشواهد والأدلة، فبجردة حساب بسيطة لتقييم موقف الحكومة والقوى السياسية من حركة الاحتجاجات، وعلى مدى أربعة أشهر، سنجد غيابا تاما للتعاطي معها بمنطق الدولة! والمتحكّم بالمواقف هو التخبّط بالمواقف واللجوء إلى استخدام العنف المفرط من دون مبرر، والمفارقة أن العناوين الأمنية الرسمية تخلي مسؤوليتها عن قتل المتظاهرين وخطفهم، وتدّعي وجود “طرف ثالث” مسؤول عن أعمال العنف! وهي بذلك تعلن رسميا تخليها عن أهم وظيفة للدولة حددتها الأدبيات السياسية بـ”الاحتكار للعُنف المنظم”. فعن أيّ خطر لغياب “الدولة” يلوّح به السياسيون! لقد جرّبنا اللادولة، فمتى نعيش في ظل الدولة، لا دولة الظل؟!
أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكوفة والمقال عن “الحرة”