علي عبدالأمير عجام
في الساعة الأولى التي أعقبت وقفت إطلاق النار واعلنت نهاية “عاصفة الصحراء” في صباح 28 شباط/ فبراير 1991، خرجت الاذاعة العراقية بنشيد “ما طول انت سالم سيدي” أي ان الدمار الذي لحق بالبلاد ليس مهما فالمهم أن يكون الرئيس سالما، لا بل أن النظام الديكتاتوري الحاكم حينذاك لم يتورع عن اعتبار هزيمته المذلة في تلك الحرب (تصادف اطلاقتها الأولى اليوم 17-1) نصرا مؤزرا على الأعداء حتى مع الدمار التام الذي لحق بالبلاد بشرا وبنية تحتية ومواردا.
وساد وهم في تلك الأيام بين بعض العراقيين وكثير من العرب من أن النظام في بغداد تعلم الدرس وسيغير مواقفه من “دولة مارقة” إلى أخرى ستندرج في المجتمع الدولي من جديد. ما فات تلك النظرة الطيبة النوايا وأصحابها، أن النظام العراقي السابق، تميز وتحديدا منذ إقدامه على غزو الكويت 1990، بالأخطاء الكارثية في مجال التعاطي مع المواقف الدولية والغربية منها تحديدا، وكشف عن سياق من الجهل التام بالعالم المعاصر متزامن مع سياق داخلي عنوانه الغرور الذي جعل مصالح البلاد كلها رهنا بما يراه شخص واحد: صدام حسين، الذي واصل رفض التعاون مع المفتشين الدوليين، على الرغم من تدخل شخصيات إقليمية ودولية مرموقة كانت تسعى لثني الرئيس السابق عن مسار التصعيد مع الولايات المتحدة التي كانت تبدو كجبار مجروح في كبريائه يبحث عن هدف لتأكيد قوته وعنفوانه.
الطريق إلى بغداد
بعد نحو عقد من ذلك الحدث الذي زلزل العالم، كانت القوات الأميركية تدخل العاصمة العراقية لتسقط نظام الحكم، وتعلن بدء مرحلة جديدة في البلاد التي اكتوى أهلها بنيران حروب النظام الدكتاتوري الخارجية والداخلية، ودفعوا جراء سياساته أثمانا باهظة ليس أقلها تلك العقوبات الأقسى في التاريخ المعاصر والتي أضعفت المجتمع العراقي بعد أن أجهز الحكم على الدولة، فبدت البلاد مع نيسان/أبريل 2003 وكأنها بلا دولة ومجتمعها لا سياقات منتظمة تجمعه.
بطريقة أو بأخرى، بدا غزو الكويت وحرب تحريرها ممرين للوجود الأميركي في العراق وإسقاط نظام صدام حسين، أي أن ذلك اليوم الرهيب كان درسا لم يتعلم منه النظام العراقي السابق حتى فكرة بسيطة واحدة، مثلما يبدو أن عددا من قادة النظام الحالي الذي تشكل على أساس ذلك الوجود ليسوا في وارد التعلم من درسين وليس واحدا، فلا هم وعوا درس “ام المهالك”بحد ذاته كتعبير صارخ عن العداء لأميركا وغرور مواجهتها، ولا درس ما انتهى إليه صدام جراء موقفه.
اللافت أن قادة النظام العراقي الحاكم اليوم ممن باتوا يجاهرون بالعداء لأميركا، هم ذاتهم الذين حملتهم سياسة واشنطن في العراق إلى السلطة، وشكلت أزمة داعش في صيف 2014 أقوى نكسة للدولة العراقية الجديدة التي رعتها الولايات المتحدة، وتمثلت بسقوط ثلث البلاد تحت سيطرة داعش، وهزيمة الآلاف من القوات التي كان يقودها ضباط موالون لرئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي.
وحيال هزيمة الدولة العراقية بقيادة المالكي أمام داعش، أكد عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي على ضرورة تغيير من بدا فاقدا الأهلية في محاربة التنظيم الإرهابي، والتوفيق بين طوائف الشعب العراقي.
ومع الدعم المنهجي والحاسم الذي قدمته الولايات المتحدة للحكومة العراقية برئاسة حيدر العبادي مما أسهم في تحقيق انتصارات جوهرية على داعش وإزالة آثاره التي سببها حكم المالكي، تباينت نظرة الرجلين إلى الحلفاء الدوليين وفي مقدمتهم أميركا، فـ”بينما ينظر المالكي نظرة شك للأطراف الدولية وـاتي معه قوى الحشد المناهضة لأميركا، يعتبر العبادي الولايات المتحدة طرفا رئيسيا في الحرب على الإرهاب”.
وبحسب القاعدة التي باتت تتأكد في المشهد السياسي العربي والاسلامي، في إن الأنظمة المسيطرة على ذلك المشهد تنتج معارضات سياسية ومسلحة تشبهها، تبدو أخطاء صدام حسين في قراءة عموم المواقف الأميركية وقد تناسلت في مواقف معارضيه: المالكي ومعظم القادة الشيعة الذين يواصلون اليوم نهج صدام ذاته في اطلاق التهديدات الفارغة.
اليوم ترن أجراس الحدث الذي زلزل العالم، لكن أصواتها لا تسمع في العراق، وإن سمعت، فبصوت خفيض لا يثير انتباها إلا عند الندرة ممن يقرأون المشهد عمليا وواقعيا، مثلما لم تقرأ بغداد ذلك الصوت الرهيب للطائرات والصواريخ الأميركية وهي تضرب بغداد والعراق كله بوحشية، إلا بوصفه صوتا مجسدا لاحتفال الوقوف في المعسكر الإيراني والدعوة الى مواجهة أميركا من جديد.