الإسلام السياسي كأزمة في تاريخ الأفكار

إبراهيم غرايبة*

يبدو تاريخ الأفكار وتشكّلها سلسلة من النظريات والاتجاهات الفكرية التي تنشأ في منظومة معقدة من التطور الاقتصادي الاجتماعي والحضاري، لكنها (الأفكار) في أحيان كثيرة تعكس أزمة المسار الحضاري، ومن المتوقع أنّ القدرة على التشخيص التاريخي للأفكار يساعد في مراجعتها وإنضاجها أو مراجعتها، لكنها عملية ليس سهلة أو تلقائية؛ فالأمم كما يقول المؤرخ والدبلوماسي الإنجليزي إدوارد هاليت كار “تسلك على نحو لا تدركه تماماً أو لا تريد أن تعترف به”.

إنّ المفهوم والتطبيق المعاصرين للإسلام السياسي (لأن الإسلام السياسيفكرة تاريخية قديمة تأثرت أيضاً بالتجربة المسيحية واليهودية في التطبيق السياسي للدين، ثم أثرت فيهما، وهذه قصة تحتاج إلى معالجة مستقلة)، يعكسان المسارات والأزمات التاريخية للأمة في محاولتها استيعاب الحياة الأوروبية المعاصرة ومواءمتها مع الإسلام، وقد مرت هذه العمليات والمحاولات بمراحل وتطورات كثيرة بدءاً من أوائل القرن التاسع عشر، لكنها أخذت انعطافات سريعة ومفاجئة بعد الأزمات والتحولات السياسية السريعة والكبرى التي مرت بها الدول العربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

كان الإسلام السياسي في مرحلة ما بين الحربين العالميتين شريكاً مهماً وإيجابياً للدول العربية الناشئة ذات الطبيعة الملكية، والتي تجتهد في نموذج إسلامي عصري (مصر والأردن والسعودية والمغرب)، ففي اتجاه القادة السياسيين بعد إلغاء الخلافة العثمانية إلى إقامة دول حديثة وفق النموذج الغربي مع بقائها منسجمة مع الإسلام؛ وجدوا في الشباب المتدينين والمتعلمين  تعليماً “مدنياً” شريكاً كفؤاً أكثر من المؤسسة الدينية التي لم تكن قادرة على استيعاب العصر الحديث وتحولاته.

وهكذا وجدت الدول الناشئة في الإسلام السياسي شريكاً ملائماً لأهدافها واتجاهاتها. لكن هؤلاء الشباب لم يكونوا شريكاً كاملاً، فهم، وإن كانوا يملكون المعرفة المدنية والدينية معاً، فإنّهم يتطلعون إلى استئناف الخلافة الدينية، ويرون الدول الحديثة القائمة غير إسلامية وإن كانوا أيضاً لا يعادونها أو لا يريدون تقويضها، على الأقل، في ميزان القوى القائم، وفي ذلك فقد تحالفوا مع السلطات السياسية باتجاه الإصلاح الديني للمؤسسات والتشريعات والعمل على مواءمتها مع الشريعة الإسلامية، وفي الوقت نفسه كانوا ينشئون فكراً داخلياً وتقية تنظيمية باعتبار هذه الشراكة مرحلة تمهد للخلافة الدينية، بل إنّ حسن البنا يصرح بذلك على نحو واضح في رسالة المؤتمر الخامس لجماعة الإخوان المسلمين، الذي عقد في العام 1937، بأنّ الخلافة الإسلامية هي الهدف الأساسي للجماعة لكنها (الجماعة) تهيئ لذلك بالدعوة والعمل وبناء القوة والتأثير والمشاركة حتى تأتي الفرصة المناسبة.

وبالطبع فقد تأثرت الرواية المنشئة نفسها بالظروف والبيئة المحيطة بعمل الجماعات والدول، وصار عملياً تطبيق الشريعة الإسلامية والإصلاح الديني والسياسي هو الرواية المحركة للإسلام السياسي، وربما يكون نشوء حزب التحرير الإسلامي في أوائل الخمسينيات داخل جماعة الإخوان المسلمين يعبر عن التيارات والاتجاهات التي تريد العودة إلى الهدف الأساسي المفترض لجماعات الإسلام السياسي، وهو إقامة دولة الخلافة الإسلامية.
وإنه لمن الملفت اليوم على نحو يحتاج إلى مقالة مستقلة ذلك الانسجام الجوهري بين تنظيم داعش، وبين حزب التحرير الإسلامي، وما يزوده الحزب لدول وتيارات تحلم بالخلافة أو تسعى لتوظيفها من تصورات فكرية وتنظيرية للجماعات المقاتلة لأجل الخلافة.

بدأ الافتراق بين الأنظمة السياسية وجماعات الإسلام السياسي عندما طورت الدولة الحديثة مؤسساتها وتشريعاتها، ودمجت العمل والتعليم الديني في بنيتها المؤسسية، وصار ذلك جزءاً من وظائفها العامة والسيادية والتعليمية، وتطلب ذلك بطبيعة الحال أن تتفكك الجماعات الإسلامية السياسية لتتحول إلى مواطنين متدينين يعملون في مؤسسات الدولة وسياقها وضمن أهدافها باعتبارهم مواطنين وليسوا شريكاً خارجياً للدولة، ولن يعودوا أيضاً من وجهة نظر الدولة في وضعهم القائم جزءاً من المجتمعات ومنظمات المجتمع المدني، إلا إذا أعادوا تكييف أنفسهم حسب قوانين وتصورات الدولة السياسية، وهكذا وجدت جماعات الإسلام السياسي نفسها خارج المجتمع وخارج القانون أيضاً.

لكن جماعات الإسلام السياسي طورت لنفسها رؤية جديدة وقدمت شرعية دينية منافسة لمشروعية الأنظمة السياسية، وقد نجحت إلى حد كبير في تقديم تصورات فكرية ونظرية وعملية للبديل الإسلامي المناقض لمشروع الدولة “الجاهلي”، وهكذا صارت شرعيتان دينيتان تتنافسان في داخل الدولة والمجتمع، شرعية الدولة السياسية وشرعية الإسلام السياسي.

كانت الدولة في زخمها السياسي والتحرري والاستقلالي وفي وهج الأفكار السياسية الجديدة الحيوية التي اجتذبت الشباب واكتسحت المدارس والجامعات تبدو في حالة تفوق وزهو، في حين انحسر الإسلام السياسي إلى الظل، وبدا أنّه هزم واختفى، لكن حرب 1967 والتحولات العالمية الكبرى والجذرية والتي هزت المجتمعات والاقتصاد والموارد والأنظمة السياسية وكل شيء أعادت بعث الجماعات الدينية، وشهد العالم عودة غير مسبوقة إلى الدين في جميع الأمم والحضارات، وعادت جماعات الإسلام السياسي إلى الواجهة أكثر قوة وحضوراً وتأثيراً، ولم تكن هذه المرة (سبعينيات القرن العشرين) هي نفسها جماعات الإسلام السياسي في العشرينيات، وتخلت الأجيال عن الأيديولوجيات السياسية التي صعدت وهيمنت على الحياة السياسية والعامة، ودخلت الدول والمجتمعات في مرحلة من الخوف والفراغ.

*كاتب أردني والمقال عن موقع “حفريات”.

Related Posts

LEAVE A COMMENT

Make sure you enter the(*) required information where indicated. HTML code is not allowed