هل نريد دولة؟

بالعنوان أعلاه كتب الأديب والصحافي أحمد عبد الحسين على صفحته في الفيسبوك:

صعبٌ أن ينشأ حوار في فيسبوك من دون شتائم واحتراب وتغالب وسوء نوايا مبيتة. هذا جمهور الفيسبوك المتوفّر وعلينا تقبّل الأمر. ومع ذلك أكتب وأنا مدرك ما ينتظرني.
فأقول:
السؤال الذي يجب أن يسأله إسلاميو العراق، شيعة وسنة، وهو على الشيعة أوجبُ لأنهم المتحكمّون: هل تريدون دولة؟
التصرّف ككائنات عقائدية تريد فرض إرادتها على شؤون الناس، لا يجعلكم بناة دولة أبداً. وإذا كان في أذهانكم أنكم تريدون دولة فعلاً فإنّ كلّ ما فعلتموه حتى الآن يخالف هذه الإرادة.
العقائد محترمة بل مقدسة لأنها تخصّ أمراً وجودياً عظيماً جداً يتعلّق بخلاص الإنسان الأخرويّ وطريقة صرف عمره ومتاجرته بوقته وجهده وأمواله مع الله. ولا يمكن لأحدٍ أن يفرض على الضمائر أمراً يضادّ ما تمليه. لكنْ …
أنتم الآن تتحكمون بدولةٍ، دولة فيها أناس وعقائد وأعراق وتيارات وأفكار من كلّ صنف ولون. لم ينشأ العراق مع وجودكم، ولن ينتهي بانتهائكم. الإيمان بالله ليس من ابتكاراتكم ولستم سدنته، ولقد أثبتّم خلال 16 سنة مضتْ أنّ صفتين اثنتين ميّزتا الفترة التي كانت ربيعكم: الفشل والفساد.
لا تريدون أن توسّعوا مدارككم وأفهامكم لتكون جديرة بالعراق ـ الدولة، وتحرصون كلّ الحرص على الحفاظ على النواة الصلبة لمسلّماتكم، ولا ترغبون في تغيير موقع أقدامكم أو تبديل النافذة التي ترون منها العالم.
بدلاً عن كلّ ذلك تتحالفون مع المستحيل: تريدون تصغير العراق وتقزيمه ليلائم مقاساتكم. وهو أمر محال.
أنتم تسدّون الأفق على الناس. تقطعون كلّ أمل. والنهر إذا سُدّ أيها السادة لن يتوقف بانتظاركم. بل سيتخذ له مجرى آخر يفاجئ الجميع. حالات الانتحار التي تتكاثر في العراق لم تحدث بسبب شرب الشاي، والإلحاد الذي ينتشر والذي تتصارخون منه لم يحدث بسبب كمية الدهون في الدولمة، نداءات التطبيع مع الوحش الإسرائيليّ ليست كلّها نتاج مؤامرة، أصناف الشذوذ الأخلاقي ليست بسبب حرارة الجوّ، الرغبة في ترك البلاد دونما رجعة أصبح حلم أغلب الشباب ولم يحدث هذا بسبب رغبتهم في الهرب من آبائهم.
كلّ هذا وأكثر، أنتم وحدكم مسؤولون عنه.


دول كثيرة مثلكم حكمها عقائديون واصطدموا بالأمر التالي:
العقيدة لا تلائم مقاس الدولة. سألوا أنفسهم: ما العمل؟ ووجدوا أجوبة.
إيران حسمت أمرها منذ عقدين تقريباً، أصبحت دولة. صحيح أنها تصدّر لأتباعها خطاباً ملتبساً يوحي بتصلّب العقيدة المفضي إلى تصلّب الشرايين، لكنها في الداخل دولة محترمة تعرف حجم إيران وثقلها وتأريخها وإرثها وتنوّعها وتعمل وفقاً لذلك. في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات عشت في إيران التي كانت تعتقل من يلبس قميصاً بنصف كمّ “نص ردن” كما تعتقل كلّ امرأة لا تحسن شدّ حجابها، ولم تكن فيها موسيقى. لكن الإيرانيين وقفوا مع أنفسهم وقفة مصيرية وسالوا أنفسهم السؤال الأهم وأجابوا عليه.
حتى الوهابية في بلاد الوهابيين تكاد تنقرض، السعودية حسمت أمرها متأخرة وقررتْ الكفّ عن اللعب مع المستحيل، دولتهم في خطر، وأمامهم خياران: تصغير السعودية لتلائم مقاس عقيدتهم الوهابية، أو ترك العقيدة المقدسة في مكانها الصحيح علاقة بين الفرد وربّه، بين الإنسان وغيبه، والشروع ببناء دولة.
والآن: هل تريدون بناء دولة فعلاً؟ أم ستستمرون في مشروعكم القاضي بتقزيم الدولة لتحشر حشراً في العقيدة؟
أجزم أن فساد الأحزاب وفشلها والسرقات وارتهان الحكومات لإيران وأميركا. كلّ ذلك هيّن ولا يكاد يُذكر أمام عظمة هذا السؤال وخطورته: هل تريدون دولة؟
جوابكم عليه سيحدد مصيركم أنتم فقط لا مصير العراق.
لأن دولة عظيمة كالعراق لا تُحشر في جلباب ضيّق.
والنهرُ إذا سُدّ سيتخذ له مجرى آخر ويأتي عليكم من حيث لا تحتسبون.

Related Posts

LEAVE A COMMENT

Make sure you enter the(*) required information where indicated. HTML code is not allowed