دلالات خمسينية نزول الإنسان على القمر

وليد محمود عبد الناصر*

تشهد مختلف أنحاء العالم هذا العام، ولا سيما الولايات المتحدة، احتفالات وفعاليات في مناسبة مرور نصف قرن على نزول الإنسان على سطح القمر بواسطة سفينة الفضاء “أبولو” وعلى متنها رائد الفضاء الأميركي نيل آرمسترونغ. وهو حدث سيظل يمثل نقطة فارقة بين زمنين مختلفين في تاريخ العلم البشري بصفة عامة، وبشكل أكثر تحديداً في تاريخ معرفة الإنسان بالكون من حوله وخارج حدود كوكب الأرض الذي يسكنه، وذلك بخلاف ما كان لدى البشر من قبل من انطباعات أو أفكار عن “القمر”، بعضها كان غامضاً ومبهماً، وبعضها الآخر لا أساس له في الواقع أصلاً، سواء كان مصدر تلك الأفكار والانطباعات إطلاق العنان للخيال، أم على خلفية اعتبارات رومانسية جعلت القمر تحديداً، مصدر إلهام لشعراء الحب وكتاب الروايات والقصص العاطفية لعقود، بل ربما لقرون.

ومن الطبيعي ألا يمر هذا الحدث التاريخي مرور الكرام، ومن المنطقي أن تشهد الفعاليات بهذه المناسبة تناول أبعاد الحدث كافة ومختلف جوانب أهميته، سواء لجهة الطفرة التي عكسها في مجالات البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، أم لجهة النقلة النوعية التي أحدثها في نظرة البشر إلى الكون حول كوكبهم ومعرفتهم به، أم لجهة كون هذا الحدث مثل نقطة البداية في إطلاق عهد جديد من انطلاق سلسلة متواصلة لم تتوقف حتى هذه اللحظة من الأنشطة الإنسانية في الفضاء الخارجي، لمجرد الرغبة في تلبية تطلعات معرفية فلسفية أم نظرية بحتة أو بغرض سد فضول إنساني طبيعي.

التوسع الإنساني في الأنشطة المتضاعفة في الفضاء الخارجي، كانت له دوافع اقتصادية لها انعكاساتها ودلالاتها المهمة، في ظل توظيف ما حدث من تقدم معرفي وتكنولوجي وتقني، خدمة لأغراض لها بعد وعائد اقتصادي وتجاري ومالي، سواء من حيث التطور في مجال تحسين القدرة على التعرف من جانب البشر على ما يحمله الفضاء الخارجي من ثروات وموارد متنوعة ومحاولة استغلالها أو السيطرة عليها من جهة، أم من حيث توظيف تواجد البشر أو محطات أو أقمار أو معدات تملكها وتديرها حكومات ومؤسسات تابعة لها في الفضاء، لتحقيق معرفة أفضل بما تحمله الأرض من ثروات وموارد وكيفية الاستخدام الأمثل لتلك الثروات والموارد وحسن استغلالها من جهة أخرى.

ومن المهم أن نستعيد من الذاكرة حقيقة أن هبوط الإنسان على القمر من خلال جهود وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) لم يكن وليد عمل أو حصيلة كفاح عام واحد ولا شعب واحد، فالحكاية بدأت قبل ذلك بما يزيد عن عقد من الزمان، عندما أطلق الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت، وفي أوج الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية الشيوعية بزعامة موسكو والغربية الرأسمالية بزعامة واشنطن، قمراً غير مأهول إلى الفضاء الخارجي، بواسطة المركبة “سبوتنيك 1” في تشرين الأول (أكتوبر) 1957، ثم أطلقت قمراً بداخله كلبة، تلاها إرسال الإنسان.

كان ذلك بمثابة قنبلة موقوتة انفجرت في وجه الأميركيين، وفجرت بدورها موجات متتابعة، بل ومتصاعدة، من الغضب في الولايات المتحدة الأميركية حول كيفية تفوق السوفيات الخارجين لتوهم، وبعد سنوات معدودة، من حرب عالمية ثانية، كانوا أكثر من ضحى فيها بالبشر وأكثر من عانى الخسائر المادية الجسيمة ودمار أوجه الحياة المختلفة وخرابها، وكذلك دارت على أراضيهم أهم المعارك الحاسمة في تلك الحرب، وفي مقدمتها معركة ستالينغراد التاريخية الشهيرة التي شكلت هزيمة النازي على أيدي الجيش الأحمر فيها، بداية الانحسار الألماني في أوروبا وبداية نهاية الفاشية والنازية في ألمانيا وأوروبا.

جاء رد الفعل الرسمي الأميركي آنذاك سريعاً، إذ أمر الرئيس الأميركي بعقد جلسة طارئة ومستمرة لمجلس الأمن القومي الأميركي للرد على سؤالين: أولهما كان كيف حدث مثل هذا التفوق السوفياتي ولماذا؟ أما السؤال الثاني فتعلق بكيفية تجاوز الولايات المتحدة هذه العثرة والانطلاق للتفوق على السوفيات، وليس مجرد التساوي معهم أو ملاحقتهم في هذا المجال الحيوي والمهم وذات الانعكاسات المباشرة على الأمن القومي الأميركي. وكانت نقطة البداية بعد العديد من الاجتماعات وتشكيل اللجان وإعداد التقارير، أن المدخل في المشكلة، ومن ثم في الحل، يكمن في حال التعليم ومناهجه وقدرات المعلمين، ما استدعى مراجعة واسعة وشاملة وعميقة لعناصر العملية التعليمية كافة، أدت إلى تغيير جذري لمناهج التعليم المدرسي والجامعي، خاصة في مجالي الرياضيات والعلوم، إذ خلصت دراسات الخبراء الأميركيين آنذاك، إلى أنهما يشهدان تراجعاً مقارنة بأوروبا الغربية أو اليابان، بل والاتحاد السوفياتي ذاته.

وطبقاً للعديد من التقديرات اللاحقة، كان لهذا الحدث تأثيره المباشر على نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 1960، والتي أتت بانتصار كبير لـ “الحزب الديموقراطي” المعارض وأتت بمرشحه جون كينيدي إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، إذ إنه في تقدير الكثير من المواطنين الأميركيين، فإن رد فعل الرئيس الجمهوري دوايت أيزنهاور على نجاح السوفيات في إطلاق “سبوتنيك 1” عام 1957 كان أقل بكثير من المتوقع أو المفترض، كما أن تعامله مع تداعيات الحدث كان أيضاً أقل بكثير من المطلوب من حيث السرعة أو الشمول أو العمق.

من تلك النقطة، انطلق التعامل الأميركي مع السبق السوفياتي، إلى الاستثمار بشكل أكبر في برنامج الفضاء الوطني، سواء لجهة التمويل بموارد ضخمة ولفترات طويلة، أم السعي لتطوير التكنولوجيا والمعارف المرتبطة بها، أم لجهة توفير الكوادر البشرية المدربة على أعلى مستوى. وعلى الصعيد المؤسسي، أدى هذا السبق السوفياتي إلى دفع الولايات المتحدة الأميركية إلى إنشاء وكالة الفضاء الأميركية (ناسا). وعلى مدار السنين، جرت تجارب كثيرة لم تكلل بالنجاح لإطلاق مركبات فضاء في اتجاه القمر سعياً وراء حلم الهبوط فوقه، وتاهت أو اختفت بعض هذه المركبات إلى الأبد، كما فقد العديد من رواد الفضاء أرواحهم إلى أن وصل العالم إلى لقطة ومشهد نزول نيل آرمسترونغ على سطحه منذ خمسين عاماً. بل إن النص الأول للخطاب المعد للرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون آنذاك للإعلان للشعب الأميركي وللعالم بأسره عن نجاح رحلة “أبولو” تضمن فقرة تشير إلى أن رواد الفضاء فقدوا، نظراً للاعتقاد المسبق بأنهم لن يتمكنوا من التواصل طويلاً مع المركز الرئيس للاتصالات معهم في “ناسا”، وذلك قبل أن يتم تعديل النص في آخر لحظة لإزالة تلك الإشارة والإشادة ببطولتهم بدلاً من رثائهم.

ومن الطبيعي أن تتركز غالبية الاحتفالات والفعاليات المتعلقة بذكرى مرور خمسين عاماً على نزول الإنسان على القمر في الولايات المتحدة الأميركية، باعتبار أنها الدولة التي حققت هذا الإنجاز العلمي والتاريخي الإنساني المهم، ومن الطبيعي أيضاً أن يركز الجانب الأميركي في احتفالاته تلك على الجهد الذي قام به الأميركيون في مضمار “غزو” الفضاء الخارجي، سواء قبل رحلة “أبولو” الشهيرة في عام 1969 أم بعدها. إلا أنه كان من المتوقع والمفترض أن تتصف هذه الفعاليات بقدر أكبر من الموضوعية والشمول في التغطية والتعمق في الأصول وسياق التطور التاريخي، بحيث تقر وتعرض بنزاهة وحيادية أيضاً جهود علماء من بلدان أخرى، خاصة الاتحاد السوفياتي السابق، الذي كان له دوره في التمهيد والتحضير، ولو من الجانب الآخر، لهبوط الإنسان على القمر.

هكذا نرى أن هناك دروساً عامة مستفادة، بما في ذلك لنا كعرب، من تجربة نزول الإنسان على سطح القمر منذ نصف قرن، حتى ولو لم تكن في الإطار المحدود لموضوع “غزو الفضاء” بتقنياته الضيقة وحدوده العلمية والبحثية والتجريبية. ومن هذه الدروس على سبيل المثال لا الحصر، أن التعليم هو المدخل الحقيقي والأول والأهم لبناء تجربة أي إصلاح وإطلاق أي نهضة أو تقدم، سواء لجهة هيكل النظام التعليمي أم المناهج الدراسية في مراحل التعليم المدرسي والجامعي والعالي كافة، أم تدريب المعلمين وإعادة تأهيلهم وتحديث مداركهم. ومن ضمن تلك الدروس أيضاً، ضرورة الالتفات للأولوية القصوى لقطاع البحث العلمي وضرورة الاستثمار فيه بنسب متزايدة من الناتج القومي الإجمالي للدول، فمن دونه لا مجال للحديث عن إنتاج أو تطوير التكنولوجيا، بل نبقى كعرب مجرد مستهلكين ومستوردين لها من دون أي قيمة مضافة من جانبنا. أما الدرس الثالث، فيخص إنسانية المعرفة والعلم وعالميتهما، فلا ضير من الإفادة مما وصلت إليه شعوب وأمم أخرى في مجال أو آخر من مجالات العلوم والمعرفة، والنظر إليه بشكل نقدي إيجابي والبناء عليه والمضي في طريق تطويره والرقي به. فالحضارة الإنسانية واحدة، تسهم فيها كل أمة، بدرجات متفاوتة ما بين حقبة وأخرى، كما أن العلوم والمعارف التي تندرج ضمن مكونات تلك الحضارة الرحبة، ملك للبشرية جمعاء، تنهل منها كل أمة وتطورها وتبني عليها وتكيفها مع ظروفها واحتياجاتها ومتطلباتها.

* كاتب مصري والمقال عن “الحياة”

Related Posts

LEAVE A COMMENT

Make sure you enter the(*) required information where indicated. HTML code is not allowed